شقة للبيع … قصة قصيرة
بقلم سعد جمعة

كان الرجل الستيني جالساً على كرسيه المهترئ في شرفة الشقة الضيقة، يتطلع إلى البحر من بين تشابك العمارات التي طمست معالم الأفق. خمسون صيفاً مرت عليه في هذا المكان، يشهد كل عام كيف تتحول المدينة إلى ساحة فوضى مع أول موجة حر.
صاح به الجار الشاب وهو ينظر إليه وقبل دخول العمارة او يصعد الدرج، ممسكاً بجهاز يبث أصواتاً صاخبة تهز الجدران: “إيه رأيك في الزحمة النهار دة؟
ابتسم الرجل العجوز ابتسامة لا تخلو من استسلام، ثم أعاد وجهه نحو البحر. لم يكن يكره الصيف لحرّه اللاهب، بل لما يجلبه من غرباء يملؤون العمارة كالسيل الجارف. يأتون بضحكاتهم المبالغ فيها، وأكياس القمامة التي يلقونها بعشوائية كأنها قنابل موقوتة، وأطفالهم الذين لا يكفون عن الصراخ وكأن البحر سرق منهم شيئاً ثميناً.
وفي الشارع، كان المشهد أشبه بكرنفال بلا نظام. بائعو التين الشوكي ينتشرون عند كل زاوية، يصرخون كأنهم ينادون على ضائعة في زحام لا ينتهي. أما بائعو الذرة المشوي، فقد استبدلوا الفحم بأسطوانات غاز خطرة، توضع بلا مبالاة بين السيارات والعابرين. والتكاتك تتزاحم كجراد منتشر، تهتز بأغانٍ صاخبة أو بآيات قرآنية تعلو بين الحين والآخر، كذكرى عابرة في وسط الضجيج.
في أحد الأمسيات، بينما كان يحاول أن يمشي بجوار بيته غارقا في الذكريات، وقبل أن يغرق نفسه مع بعض الاصحاب القدامي علي المقهي. وقفت أمامه امرأة، تمسك بيدها مناديل رخيصة، وبجوارها طفلة صغيرة تنظر إليه بعينين تعبتا من السؤال قبل أن تتعلم النطق.
“خذ مننا، بارك الله فيك.”
قالتها بنبرة ألحاح مستمر، لا تقبل النقاش، ولا تعطيه فرصة للرفض.
ألقى نظرة على الطفلة، فرأى في عينيها بريقاً يكاد يختفي تحت ثقل الحياة. مدّ إليها يده ببعض النقود، ثم استمر في السير بهدوء. نظر إلي البحر، لكن البحر هذه المرة لم يعد كما كان. لم يعد ذلك المشهد الهادئ الذي يعرفه، بل صار مرآة تعكس غربة المكان، وزحاماً لا ينتمي إليه.
وفي الصباح التالي، علق لافتة صغيرة على الباب: “شقة للبيع”
لعلها لم تكن هزيمة، بل إدراكاً بأن بعض الأماكن لم تعد كما كانت، وأن الهدوء صار سلعة نادرة في عالم يزداد ضجيجاً كل يوم. والبحر ..
ربما لم يعد سوى ذكرى تذوب بين زحام لا يعرف الرحمة.
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.