نحن في حاجةٍ ماسة إلى سينما تعبرُ عن واقعِنا بكل تفاصيله ، تشبه الكثير منا في طبيعةِ أحوالهِ وظروفِ معيشتِه ، بعيداً عن التناولِ التقليدي ، والأداءِ التمثيلي المفتعل الذي يبعدُنا عن فهمِ الصورةِ الحقيقيةِ لمجتمعاتٍ مصريةٍ قائمةٍ بالفعل ، يعاني قاطنوها ظروفاً اقتصاديةً واجتماعيةً قاسيةً يجب تسليطُ الضوءِ عليها ونفضُ الغبارِ عن كل ما يدورُ حولها .
علمتنا السينما أن الواقعيةَ هي أساسُ نجاحِ الصناعة ، وأن الخوضَ في كلِ تفاصيلِ الحياة لا يسئ إلى طبيعةِ المجتمعاتِ التي نعيشُ فيها بل هى ناقوسُ خطرٍ يدقُ على أبوابِها في محاولةٍ للإصلاحِ الذي بدأت فيه الدولةُ بالفعل منذُ أعوامٍ قليلة .
ريش فيلم روائي طويل إنتاج 2021 استخدم مخرجهُ الشاب عمر الزهيري لغةً سينمائيةً جديدةً اعتمدَ فيها على السرياليةِ والتجريد عند تناولِه لأحداثهِ المختلفة .
فانتازيا أو معالجة إبداعية خارجة عن المألوف مستخدماً الخيالَ والسحرَ وغيرَه من الاشياءِ الخارقةِ للطبيعة كعنصرٍ أساسي للحبكةِ الروائية ، ربما تغيبُ عن الكثير عند مشاهدتِهم للفيلم ، وبالتالي لا يحققُ النجاحَ الجماهيري المطلوب .
فخٌ وقع فيه بعضُ النقادِ ونجومِ السينما الذين شاهدوا العرض الخاص للفيلم بمهرجان الجونة السينمائي ، عندما أعلنوا انسحابَهم بعد دقائقَ معدودةٍ من بدايةِ العرض ، مشيرين إلى ضعفِ مستواه الفني ،وإساءته لسمعة مصر ، حيث يُظهر العديدَ من الجوانبِ السلبيةِ في المجتمع ويركزُ عليها بشكلٍ رئيسي ، ولا يلقي الضوءَ علي جوانب إيجابية .
رأيٌ تكٌونَ في دقائقَ معدودةٍ من خلال متابعتِهم للمشاهدِ الأولى ولا يعلمُ أحدٌ أن الفيلمَ الذي وُلدَ من خيالِ المخرج عمر الزهيري بأحداثِه وشخوصِه وممثليِه مجرداً من الزمانِ والمكانِ وأيضا الأسماء ، ويمكنُ حدوُثُه في أي دولةٍ من دولِ العالم ، ويتناول قضيةً إنسانيةً لسيدةٍ تعاني الفقرَ في أي زمانٍ ومكان .
فيلم ” ريش ” المقرر عرضُهُ في دورِ السينما خلال شهر ديسمبر المقبل وبالتالي لم يُتح للكثيرِ معرفةِ أحداثه ، غير الجدل الذي دار حوله ، يتناول قصةَ عائلةٍ فقيرةٍ تتكون من أب وأم وثلاثة أطفال ، وفي أحد الأيام يقرر الأب الاحتفال بعيد ميلاد أحد أبنائه ، ” على قدر ذات اليد ” ، فيستعين بساحرٍ لتقديم فقرات مُسلية للضيوف ، ولكن عندما اختار الساحر الأب للمشاركة في إحدى فقراته ، يُدخله في صندوقٍ خشيٍ كبير ويحوله إلى ” دجاجة ” ، فيختفي الأب ! ثم يفشل الساحر في عودته من جديد .
وتلجأ الزوجة لكل السبل لاستعادة الزوج ، حيث تبحثُ عن الساحر الذي هرب ليلة عيد الميلاد ، ولكن دون جدوى ، وبعدما تنفد نقودُها ، تقرر الاعتمادَ على نفسِها لتدبيرِ متطلباتِ الأسرة ، من خلال البحثِ عن وظيفة ، ومطالبة ابنها الأكبر بالعملِ في المصنع الذي كان يعمل فيه والده لسداد ديونهم ، وبعد مجموعةٍ من المفارقات التي تتعرضُ لها الأم المغلوبة على أمرِها وتحديها الصعاب ، يستقر وضع الأسرة ، وهنا يظهرُ الأب من جديد ، ولكنه بحالةٍ مزرية ، غير قادر على الكلامِ والحركة ، مما يحٌمل الأسرة الفقيرة عبئاً جديداً . وهنا يترك عمر الزهيري النهاية مفتوحة أمام المشاهدين دون الإفصاحِ عن أسبابِ ما حدث ، لكن تمرد الزوجة على الدجاجة بِذبحها تعد النهاية الحقيقية لانهاءِ حالةِ العزلةِ والكبت والقهرِ المجتمعي الذي كانت تعيشه .
قصةُ حياةِ امرأةٍ تكافحُ لتغطيةِ نفقاتِ أسرتِها البسيطة من أجلِ البقاء على قيدِ الحياة ، بالطبع لم تغب عن السينما المصرية ، ونراها أمام أعينِنا في كل مناحي الحياة ، لكن طريقةَ العرضِ واستخدام لغة السحر والخيال ، وجرأة المخرج في اختيارِ أبطالٍ لم يسبق لهم تجربة الوقوفِ أمام الكاميرات ، معتمداً على المعايشة الحقيقية للأحداث وليس التمثيل ، ورؤيته في سردِ الأحداث ورسمِ ملامح الشخصيات بكل دقة ، كلها مقومات أدت الي حصولِ فيلم ” ريش ” علي ثلاثِ جوائزَ عالميةٍ أهمها :
جائزة أسبوع النقاد في الدورةِ الرابعةِ والسبعين لمهرجان كان السينمائي الدولي بفرنسا وهي أولُ جائزةٍ يحصلُ عليها فيلم روائي مصري طويل في تاريخِ المهرجان ، مع جائزة الاتحاد الدولي للنقاد ” فيبريسي ” التي يتنافسُ عليها قرابةُ الخمسينَ فيلماً في قسمي أسبوع النقاد ونصف شهر المخرجين .
حيث يعدُ فيلمُ ” ريش ” من أذكى الأفلامِ المصريةِ الحديثة ، وأكثرها قدرة على إثارةِ الأفكارِ المهمة دون صياح أو خطابة أو مداعبة لذائقةِ الجمهور أو مبرمجي المهرجانات .
كما فاز فيلمُ ” ريش ” بالجائزةِ الكبرى لمهرجان ” بينجياو ” في الصين وتبلع قيمتُها 20 ألف دولار .
وفي مهرجانِ الجونة السينمائي ورغم كل الانتقادات التي وُجِهت للفيلم بين أركانه وكواليسِه المختلفة يفوز ” ريش ” بنجمةِ الجونة كأفضلِ فيلمٍ عربي .
وبين أجواءِ التقديرِ العالمي ، وموجةِ الانتقاداتِ التي نالت الفيلم من صناعِ السينما المصرية ، بحثتُ عنه وشاهدتهُ لأجدَ نفسي أمامَ لوحةٍ إبداعيةٍ تجريديةٍ صادمةٍ تطلق العنانَ لأفكارٍ خاصة ليست بالضرورةِ أن تكونَ معبرة عن فكر صناعها ، كما هو الحال في الفن التشيكيلي التجريدي .
ابطالُ فيلم ” ريش ” من قلبِ الواقع ، ملامحهم صادقة ومعبرة ، صنع منها عمر الزهيري حواراً بديلاً وكافياً لفهم حجمِ المعاناة التي تعيشها الأسرة في مجتمعٍ مليئ بالمتناقضات ، حيث تبدأ الزوجة ” دُميانا نصار ” بالوداعة ، تتحدثُ بالكاد جراءَ قهرِ الظروف التي تحيطُ بها ما أفقدها الشعور بالإنفعال وتحتاج إلي التغيير لمواجهةِ التحدياتِ الجديدة حتى تثور على الواقعِ المحيط بها .
لا توجد مشاهد ضائعة في الفيلم ، تسلسل يعتمد على السردِ الموجه ، وهو إنجاز لمخرجٍ يقومُ بأولِ ظهورٍ له ، يمتلك لغةً سينمائيةً معاصرةً وفريدة ، ما يعدُ أحد الاكتشافات الحقيقية لعام 2021 .
الخلاصةُ أن فيلم ” ريش ” الذي يندرج في إطار ” الكوميديا العبثية السوداء ” ، ربما تتفق أو تختلف مع تفاصيله ، تشتبك معه بأريحية ، فهو لا يشبه إلا نفسه وصانعه بصرياً وفكرياً ، ما يستحقُ التقدير والإعجاب ، بغضِ النظرِ عن الآراء التي دارت حوله وأثارت الكثير من الجدل ، أو الجوائز العالمية التي حصدها قبل طرحهِ في دورِ العرضِ السينمائي .
أرى أن فيلم ” ريش ” ربما لا يحقق النجاح التجاري أو الجماهيري المنشود عند عرضهِ في دورِ السينما المصرية ، وإن كان من وجهةِ نظري أيضاً قد حقق الفيلم نجاحاً كبيراً جراءَ الدعايةِ المجانيةِ التي أحدثتها حالة الحراك الفني التي دارت حول مقوماتِه وأسباب حصولِه على جوائزَ عالميةٍ ، لكن يكفي أننا أصبحنا أمام لغةٍ سينمائيةٍ جديدةٍ تستنهضُ الهمم وتطلقُ العنانَ لأفكارٍ جديدةٍ خارج الصندوق .
في تصوري تحتاج السينما إلى ” دجاجةِ ” عمر الزهيري كي تغيرَ مسار الواقع السينمائي الذي نعيشه الآن ، فبدونها تظل السينما على حالِها ، تعيشُ حالةَ الفقرِ في الفكرِ والإبداع .
مصر يا سادة أكبرُ من أن نزايد على وطنيةِ أحدٍ فيها ، وإذا كان فيلم ” ريش ” أثار الجدل بين مؤيدٍ ومعارض حول ما تضمنته المشَاهِد من عشوائيات دون الإشارةِ إلى زمانٍ ومكان ، فهذا لا ينفي وجود بعضٍ منها الآن ، ليس على أرضها فقط ولكن في مختلف دول العالم ، وهنا يأتي دور السينما الرئيس في استنفارِ الهمم ، وإبرازِ دور الدولةِ في السيرِ قدماً للقضاءِ عليها ، وهو ما حدا بالمسئولينَ الخروج بتصريحاتٍ موثقةٍ بالأرقام حول معدلاتِ إنجاز مشروع ” حياة كريمة ” التي قطعت فيه الدولةُ شوطاً كبيراً ، ما يعدُ أحد أهم إنجازات مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي .
إذن هو حراك وليس عراك ، وجهات نظر وليس قذف أو سب ، حول فيلم وضع السينما المصرية على المحك في كافةِ المحافلِ الفنيةِ الدولية ، وبين أقلامِ الصحفيينَ والكتابِ العالميينَ الذين أشادوا بالفيلم وبحريةِ الفكرِ والتعبير اللتينِ تتمتع بهما صناعةُ السينما في مصر .
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.