في البدء لابد لنا أن نتفق على أن الثقافة هي عملية نمو وليست عملية بناء يتحفنا الفيلسوف الصيني “لين يوتانج” بمقولته الرائعة: “لا ريب أن كل ما ينمو يكون أكثر جمالا في العين من الذي يبنى , لذا من الطبيعي أن تكون الوردة والشجرة والنخلة أجمل بكثير من البناية” , إذن من السهولة نحضر الحديد والاسمنت والطابوق وما هي إلا أيام حتى تجد كبرى البنايات قد جهزت لكن النخلة تحتاج إلى سقف زمني طويل وظروف مناسبة لكي تتحول النواة الى نبتة ومن ثم الى فسيلة وبعدها الى نخلة تحمل اعذاقها رطبا شهيا … هكذا إذن هي “عملية النمو” تحتاج إلى خطوات عديدة من الحرث والغرس والسقي وأشعة شمس وسهر وحماية وصبر يمتد لسنوات طويلة لكي تطل علينا النخلة بشكلها النهائي الشامخ المثمر, هذه هي النخلة فكيف لو تعاملنا مع الإنسان؟ من خلال بناءه لكي يكون عنصرا فاعلا في المجتمع .
كثير من الذين راهنوا على ان الثقافة تنتقل في مفاصل الأسرة والمجتمع بين ليلة وضحاها لكنهم اصطدموا بعقبات كثيرة لان في تصورهم كان كل من يقرأ هو مثقف أو كل أديب هو مثقف أو كل من يمتلك مكتبة عملاقة في بيته هو مثقف او كل من قرأ جريدة في مقهى هو مثقف او كل من استخدم مصطلحات غير مفهومة أثناء حواره او مصطلحات فخمة بأنه مثقف … الخ لكن الحقيقة ان المثقف هو الذي يمتلك حسا مرهفا وسلوك إنساني رفيع المستوى ومتحضر يؤثـــــر في الفرد والأسرة والمجتمع عبر بوابات مهمة ونوافذ متعددة من خلال سلوكه الذي يؤمن بممارسة الحرية المتوازنة / نبذ العنف / احترام الرأي الآخر/ فن المحبة / قيم التسامح / ثقافة السلام / احترام سلطة القانون / الانتقال السلمي للسلطة /احتواء الأديان واحترامها / النأي عن العنف /عدم الخلط بين الخاص والعام في الأمور العامة / بث الوعي المجتمعي / تعلم مهمات السلامة العامة و…و…الخ هذه هي الحاضنة الحقيقة لثقافة الفرد والمجتمع , والمثقف العضوي هو من استطاع ان يحول كل الذي “تعلمه” من خلال قراءة الكتب وحضوره اللقاءات الثقافية ومشاركاته في المؤتمرات والمهرجانات والظروف الصعبة التي قست عليه وصقلته الى “أفعال حقيقية” مؤثرة تسهم في بناء الإنسان والمجتمع بصورة رائعة تماما كما دودة القز التي تأكل أوراق الشجر وتحوله إلى حرير.
بعدما أصدرت مجاميعي القصصية الأربعة وانغماسي في الوسط الثقافي نتج عن تجربتي كتاب صدر عام 1998 لشيخ النقاد الخالد الذكر الناقد عبد الجبار داود البصري بعنوان “القاص محمد رشيد في مرآة النقد الأدبي” وبعض الكتيبات بحجم الكف للخالد الذكر د.حسين سرمك بعنوان معالجة موضوعة الجنون في قصة ثقوب الذاكرة للقاص محمد رشيد” عام 2003 و د.سمير الشيخ بعنوان “انماط التعدية ولغة الفعل : دراسة اسلوبية في اللقطة القصصية “قمة حلم” للقاص محمد رشيد وفقا لنظرية هاليدي في النحو الوظيفي” عام 1998 والشاعر ماجد الحسن بعنوان “سيمفونية الرماد ثقوب في ذاكرة الحرب …دراسة في قصة سيمفونية الرماد لقاص محمد رشيد” عام 1998 وغيرها من الدراسات التي نشرت في الصحف والمجلات العراقية والعربية . قررت بعدها وبعد فترة مخاض عسيرة جدا أن أولد من جديد وانسلخ من صفتي كوني “أديب نرجسي” استمتعت بالدراسات التي كتبت ونشرت عن تجربتي القصصية والإطراء والمديح وأيضا الابتعاد عن المدارات المغناطيسية لأغلفة إصداراتي البراقة التي قيدتني في شباكها لسنوات , هنا قررت ان اختار طريقا آخر هو “التنمية” لكي أسهم بشكل فاعل في بناء الإنسان والمجتمع بعد رحلة طويلة وشاقة ومضنية قطعتها أتلوى بين سندان الحصار ومطارق الحروب بسبب (الهؤلاء) ….
الهؤلاء تجار الدم الذين أعلنوا علينا أشرس الحروب….
الهؤلاء القتلة الذين رسموا لنا أبشع الخسارات الملونة بأفكارهم المسمومة ومخالبهم القذرة…
الهؤلاء الذين توضؤا بدماء الأبرياء … ودموع الثكالى….
الهؤلاء الذين اختطفوا أخي عمر وقتلوا صديقي نوزاد وهجّروا جاري بولص وذبحوا ابني علي …
هنا تذكرت القذائف التي أمطرت فوق رؤوسنا , سرقت دهشتنا آنذاك حينما انطفأت مخالبها في المهمل , المهمل الذي سرق ربيع عمرنا عنوة وبمرور السنين أدركنا بأنها قضمت ذاكرتنا , وبدأنا نحس أشياءنا الجميلة مشاهد مضببة ومثقبة بالفراغ الهؤلاء المجانين المغرقين في الجدية الموهومون بكل الذي اقترفوه من جرائم كان بإيعاز من الله لهم وهم دائما من خلال وسائل الإعلام يعلنون بأنهم على حق وان الله يقف إلى جانبهم.
أول تجربة لي في طريق التنمية كانت محطة تأسيس دار القصة العراقية عام 1999 عملنا بجد واجتهاد من اجل تسليط الضوء على قامات الثقافة العراقية باستضافة رواد القصة والرواية والشعر من خلال حلقات دراسية ومؤتمرات ومهرجانات كانت تدار على غير المألوف كالتي انتهجتها وزارة الثقافة والإعلام واتحاد الأدباء والكتاب قبل أحداث 2003 حتى أننا أسسنا جائزة تمنح للمبدعين الأحياء خارج إطار التكريم الحكومي حققتها دار القصة العراقية تحت مسمى “ميدالية الإبداع” منحت لعدد من المبدعين الشباب و”قلادة الإبداع” التي منحت للمبدعين الرواد منهم: القاص فرج ياسين والروائي عبد الخالق الركابي والكاتب المسرحي محي الدين زنكه نه والقاص جاسم عاصي والقاص محمد خضير والشاعر كاظم الحجاج والناقد د. حسين سرمك والخط الأول من فناني مسلسل مناوي باشا .. وغيرهم وبعد فترة وصفت مجلة الصدى الإماراتية عام 2001 ان دار القصة العراقية “اصبحت محجا للأدباء العراقيين” وبعد سلسلة من نشاطاتها المتميزة انتبه بعض أعداء النجاح الى هذا التفرد وبدءوا شن حملة إعلامية مكثفة من خلال الصحف الأسبوعية واليومية من قبل رأس الهرم في اتحاد الأدباء والكتاب في بغداد وبعض المحسوبين على الصحافة والطارئين على الأدباء إلى أن أغلقت دار القصة العراقية بقرار رسمي من قبل الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق رقم (265) في 1/9/ 2002 وبإيعاز من الحكومة العراقية وتم تجميد عضويتي من اتحاد الأدباء وتحويلي الى مجلس تحقيق وتم نشر قرار الغلق في الصحف الرسمية كذلك في الصفحة الأخيرة من جريدة الزوراء في عددها (274) بتاريخ 19/9/2002 وقد أطيح بهذا الحلم الجميل الذي استمر على ارض الواقع لمدة سنتين وتسعة شهور كانت تلك الفترة حبلى بالنشاطات المتميزة التي همشت دور الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق باعتراف احد أعضاء المكتب التنفيذي وبعد أحداث 2003 كانت مساحة الحرية اكبر والفضاءات أكثر اتساعا حيث أعيدت نشاطات دار القصة العراقية بشكل أفضل وتم من خلالها تأسيس نواة لـبرلمان الطفل العراقي وكان هدفه تطبيق اتفاقية حقوق الطفل الدولية وحققنا نشاطات مثمرة الى ان وصلنا مرحلة حصلنا على صفة عضوا مؤسسا في جامعة الدول العربية من خلال الأمانة العامة للبرلمان العربي للطفل في الشارقة كذلك عضوا استشاريا في المجلس العربي للطفولة والتنمية في القاهرة وعضوا في الاتحاد العربي للتطوع في مملكة البحرين وقد مثلنا العراق في مؤتمرات عديدة ومهمة في بناء ثقافة وحقوق الطفل . والخطوة التي تلتها تم تأسيس جائزة العنقاء الذهبية الدولية انبثقت عن أطول مهرجان في العالم فترة انعقاده ثلاث سنوات وحاليا نحن في دورته الخامسة (2018-2021) استراليا /العراق وقد حقق مهرجان العنقاء (179) نشاطا في 23 مدينة وعاصمة عربية وعالمية متجولا في أربع قارات هي آسيا وإفريقيا وأوربا واستراليا وكان الجديد في المهرجان هو الاحتفاء وتكريم المبدع في بلده وسط أهله ومحبيه….
تكريم المبدع الذي تيمم بتراب وطنه وتوضأ بنور الحرف وصلى بمحراب الكلمة … تكريم المبدع الذي أضاف غصنا لشجرة الإبداع العالمية , وبعدها تم تأسيس “مهرجان الهُرّبان السينمائي الدولي المتجول” عام 2009 وحققنا من خلاله ثلاث دورات الأولى خصصت ” للثقافة وحقوق الطفل ” والثانية ” للتسامح” والثالثة ” للتنمية “وبعدها تم تأسيس” مؤتمر القمة الثقافي العراقي ” عام 2011 واستمر ثلاث دورات وكانت من توصياته اختيار يوم 25 نوفمبر من كل عام يوما للمثقف العراقي وتم الاحتفاء بعدد كبير من المبدعين لثمان دورات,ثم جاء تأسيس “الجمعية العراقية للتسامح المثقف وتحولاته من الأديب النرجسي إلى المثقف العضوي – الانتحاريا .. الثقافة عملية نمو وليست بناء ” عام 2013 وكان المؤتمر التأسيسي لها في نادي العلوية بحضور ومشاركة شخصيات مهمة منهم المفكر د. عبد الحسين شعبان ود. اياد البرغوثي بعدها أسسنا “مؤتمر القمة الثقافي العربي “الذي حقق نقلة نوعية مهمة من خلال بحوثه وحضوره العربي وبما ان التحديات التي واجهناها في الدورة الأولى كانت متعبة جدا بسبب صعوبة تأمين تأشيرات الدخول والعدد الكبير من المشاركين في محاور المؤتمر كذلك شحة التمويل تقرر ان ينعقد المؤتمر الثاني بجلسات مفتوحة لمدة سنتين يتجول من خلالها في عدد من المحافظات العراقية والدول العربية , وبعدما حققنا فعاليات الافتتاح وجلسات الطاولة المستديرة في ميسان للفترة 27 – 29 /5/ 2021 ها نحن اليوم بتاريخ 4/9/2021 في السليمانية نحقق الجلسة الثانية للمؤتمر بالتنسيق مع مركز كلاويز الثقافي , وستستمر رحلة قطار مؤتمر القمة الثقافي لمحطات متنوعة في اللغة والدين والقومية إيمانا منا بان الثقافة التنويرية المنفتحة شأنها شأن الموسيقى تصغي لها القلوب وتتفاعل معها المشاعر وتفهمها العقول وتسمعها الأذان ونستمتع بها كل وفق طريقته الخاصة .
وبعد هذه الرحلة اللذيذة المتعبة لا بد لنا من الاستمرار في هذا المشروع التنويري العميق لكن لابد لنا ان نعترف ولو للحظات بأننا أخطانا بحق أنفسنا كثيرا وبحق عوائلنا أكثر حتى أنني عام 2007 فقدت ركنا من أركان أسرتي بسبب إهمالي المتكرر لـ “وقتي المخصص لهم ” كذلك “تجاوزي المتكرر على أموال الأسرة” حيث تم بيع ثلاث قطع أراضي وثلاث محلات كذلك تم صرف المبلغ الذي حصلت عليه من ارث جدي لتمويل نشاطاتنا الثقافية والإنسانية القديمة كذلك تم بيع أشياء ثمينة آخرها كانت بيع سيارة الأسرة بسبب عجز ميزانية مؤتمر القمة الثقافي العربي الثاني الذي افتتح في ميسان قبل أربعة شهور .ان اغلب المشاكل التي وضعت في طريقنا عنوة تمت مواجهتها بطاقات تحمل كبيرة جدا وقاهرة لا استطيع كتابتها على الورق لان وجعها موجع ومؤلم للغاية صعب ترجمته لكن كل الذي استطيع أن أبوح به هو ان الإيمان بالله والوطن والتحدي والصبر جعلتنا نحتوي ونروض كل المعوقات التي حاولت تقنين طموحنا وجهودنا وقتل أحلامنا. الأغلبية كانت تحضر وتحصد النجاحات وتستغل اللقاءات التلفازية وتقطف الجوائز ولكن التحديات الصحية والمالية كنت أتحملها لوحدي فقط بصمت ولوعة والم لأني كنت في الواجهة دائما وهنا لابد ان اذكر من غرس بدواخلي بذور التحدي وزرع في أعماقي التفاؤل والأمل لأشكر أساتذتي الذي اعد كل واحد منهم بمثابة ابا روحيا ورمزا وطنيا شامخا استمد من روحه التواصل والاستمرار والعطاء واحتواء الآخرين (الدكتور عبد الحسين شعبان الذي وصفني بالمثقف الانتحاري والدكتور قاسم حسين صالح الذي وصفني بمثابة وزارة ثقافة والدكتور تيسير الالوسي منحني وسام الثقافة العراقية من خلال مؤسسته في هولندا والكاتب جاسم المطير الذي كان بلسما لجراحي الثقافية والروائي محمود جاسم عثمان الذي كتب عني ووصفني مؤسسة في رجل والكاتب سعد حيدر الذي منحني محبته ونبل مواقفه والأستاذ جاسم محمد الذي كان معي في كل شيء) وعذرا لمن لم اذكره احتراما لرغبته .
في الختام ومن الإنصاف لا بد ان اخصص بعض الكلمات بحق عائلتي …. قبل أيام حاولت أن التقي بأفراد أسرتي كلهم وحاولت ان أرمم ما تهشم من كريستال علاقتنا الحميمة بسبب غيابي الدائم عنهم وانشغالي بعملنا الثقافي استغربت لسؤال احد أبنائي وبنظرة عتب مريرة وعميقة جدا شعرت وقتها أنني اصغر حتى من نملة قال لي والدموع تمطر من عينيه عزاءا جميلا ….قال :- ماذا جنينا نحن ؟ بعدما بعت كل شيء يخصنا لنشاطاتك.
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.