
تحتفل مصر، في التاسع من مارس، من كل عام، بيوم الشهيد، وهو اليوم الذي استشهد فيه الجنرال الذهبي، الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، خلال حرب الاستنزاف، عندما فاضت روحه إلى بارئها في ذلك اليوم من عام ١٩٦٩، على الخط الأمامي للدفاعات المصرية على قناة السويس، في سابقة تُعد الأولى في التاريخ العسكري العالمي، أن يستشهد رئيس أركان قوات مسلحة على الخط الأمامي.
كان سيادته، رحمه الله، قد قام في صباح ذلك اليوم بالمرور على خط الدفاع الأول للقوات المسلحة على الضفة الغربية لقناة السويس، على بُعد ٢٠٠ متر، هو عرض القناة، من قوات العدو الإسرائيلي، التي كانت تبني حينها خط بارليف، أقوى الحصون الدفاعية في تاريخ العسكرية العالمية. ذلك الخط الذي وضعت القيادة المصرية خطة لتدميره بنيران المدفعية المصرية، بالضرب المباشر، وتم تنفيذ هذه الخطة في عدة أيام، كان آخرها يوم ٨ مارس عام ١٩٦٩، وهو ما دفع رئيس الأركان المصري، في صباح اليوم التالي – يوم الاستشهاد – للمرور أمام كل نقطة من خط بارليف ليطّلع بنفسه على مقدار وحجم التدمير الذي ناله. وكان بصحبة سيادته مدير سلاح المدفعية، آنذاك، وعدد من كبار القادة.
وفي هذا اليوم بالذات، قام سيادته بالمرور على موقعي، حيث كنت قائد سرية مشاة أدافع عن الخط الأول للدفاعات المصرية، وأمامي، على مسافة ٢٠٠ متر، يوجد خط بارليف الدفاعي الإسرائيلي. يومها، توقف سيادته في موقعي، ومعه مدير المدفعية، وبعض القادة والخبراء الروس، في سيارتين جيب روسي بأربعة أبواب، والتي كانت مخصصة لكبار قادة القوات المسلحة. واستمر تواجدهم في موقعي، بعض الوقت، لمراقبة حجم التدمير في نقاط خط بارليف، أمام موقع سريتي في نقطة “التبة المسحورة”، ونقطة “الملاحظة”، وهي أسماء كنا نطلقها على نقاط خط بارليف.
وبعد المعاينة، اتجه إلى الإسماعيلية، وعند وصوله إلى الموقع رقم ستة، في نقاط الدفاعات المصرية، لمراقبة خط بارليف، من هناك، يبدو أن الجانب الإسرائيلي لاحظ وجود سيارات الجيب الروسية ذات الأربعة أبواب، واستنبط وجود كبار قادة القوات المسلحة، فحدث تراشق بالنيران بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية، وانفجرت إحدى طلقات المدفعية الإسرائيلية بالقرب من الحفرة التي كان يقف فيها الفريق رياض، وتطايرت شظاياها، لتصيبه إحداها ويستشهد في الحال، بعد ٣٢ عاماً قضاها في الخدمة بالقوات المسلحة المصرية.
تخرج الفريق عبد المنعم رياض في الكلية الحربية المصرية عام 1941، واشترك في الحرب العالمية الثانية، ضد ألمانيا وإيطاليا، حيث كان قائداً لإحدى البطاريات المضادة للطائرات، في المنطقة الغربية. وخلال عامي 1947 و1948 التحق بإدارة العمليات المصرية، ونال وسام الجدارة العسكرية، ليتدرج، بعدها، في المراكز حتى قيادة الدفاع المضاد للطائرات، عام 1954. وفى مايو 1967، بعد توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والأردن، عُين قائداً للجبهة الأردنية، أثناء حرب 67، بعدها عاد إلى مصر ليتولى رئاسة أركان حرب القوات المصرية، بعد هزيمة 1967.
عقب استشهاده، كرمه الرئيس عبد الناصر، برتبة الفريق أول، وأقيمت له جنازة عسكرية وشعبية، من ميدان التحرير، تقدمها الرئيس الراحل عبد الناصر، وخلفه جموع شعب مصر العظيم. واعتبر يوم استشهاده هو يوم الشهيد في مصر، وأطلق اسمه على أشهر ميادين القاهرة، بجوار ميدان التحرير، وتم وضع تمثال له فيه، فضلاً عن إطلاق اسمه على العديد من الشوارع والميادين والمدارس في مختلف مدن مصر.
واستمراراً للاحتفاء ببطولة شهداء مصر، الذين قدموا أرواحهم في سبيل رفعة شأنها، فقد تم إنشاء النصب التذكاري لشهداء مصر في منطقة مدينة نصر بعد حرب ١٩٧٣، والذي صُمم على شكل هرم، رمز العمارة المصرية العريقة، وعلى أضلاعه كُتبت أسماء الشهداء المصريين، المختلفين في انتماءاتهم الدينية، والمتحدين في الدفاع عن مصر في حروبها المجيدة. وعند النصب التذكاري، دُفنت رفات الجنود المصريين الذين لم يتم التعرف عليهم بعد حرب ٧٣، ليكون “قبر الجندي المجهول” رمزاً لكل شهداء مصر، الذين ننعم اليوم بالأمن والرخاء بفضل تضحياتهم. واتبع نفس النهج في كافة محافظات مصر بإنشاء نُصب تذكارية في أشهر ميادينها، لإحياء ذكرى يوم الشهيد، في جميع المحافظات، في كل عام.
ومما لا شك فيه، أن الشعب المصري يدرك، تمام الإدراك، أنه لولا تضحيات هؤلاء الشهداء لما كنا اليوم ننعم بالسلام الذي يعيشه شعب مصر العظيم، ولما بدأنا تنفيذ الخطط الاستثمارية وبناء المدارس والمستشفيات. فما نعيشه اليوم، هو حصاد تضحيات الأمس، التي بذلها المحارب المصري، دون تردد، والتي كانت روحه أغلاها. وما نقدمه، اليوم، من تكريم لهؤلاء الشهداء، بإطلاق أسمائهم على المدارس والطرق والمحاور، أو نشر سيرهم وتضحياتهم لأجل أبناء مصر في جميع مراحل التعليم، إنما هو نقطة في بحور تضحياتهم.
وقد ساهم الإعلام المصري في استيفاء حق الشهداء، من خلال الأعمال السينمائية والدرامية التي قدمها، مؤخراً، لتجسيد جهود وتضحيات هؤلاء الأبطال في الدفاع عن أمن مصر وسلامتها، ليلمس كل مواطن مصري قيمة ما قدمه هؤلاء الشهداء لشعب مصر، ويستشعر قيمة عطاءهم، ويدرك أننا نعيش، دائماً، من خير هؤلاء الأبطال، الذين لا ننساهم، أبداً، بعدما قدموا للوطن أعظم ما يملكون، وهي أرواحهم الطاهرة.
فاسمحوا لي أن استخدم قلمي، والمساحة المخصصة لمقالي، لأتقدم لهم، ولأسرهم الكريمة، بكل الشكر والتقدير والعرفان، على ما قدموه لمصرنا الغالية.
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.