
شكَّل الخطاب الأمني حجر الزاوية في الهوية الوطنية والسياسية لإسرائيل منذ تأسيسها عام 1948،فقد تبنت فكرة “الدولة المحاصرة” – التي تُصوِّرها ككيانٍ وحيدٍ يواجه تهديدات وجودية من جيرانه العرب والفلسطينيين، فلم تكن مجرد أداة دعائية؛ بل تحولت إلى سردية مركزية تُشكِّل وعي المواطن الإسرائيلي، وتُبرِّر سياسات الحكومات المتعاقبة، وبرز بنيامين نتنياهو في قلب هذه السردية كأحد أبرز من وظَّفوا هذا الخطاب لتعزيز شرعيته السياسية وإطالة عمر حكوماته، خاصةً في ظل تحالفات مع أحزاب اليمين المتطرف، حيث برز نتنياهو خلال العقدين الماضيين كأبرز وجوه اليمين الإسرائيلي، فقد قاد الحكومات الإسرائيلية لـ 15 عامًا متقطعة منذ عام 1996، وفي كل مرة تواجه فيها إسرائيل حربًا أو مواجهة عسكرية، تشهد شعبية نتنياهو وحزبه “ليكود” ارتفاعًا ملحوظًا، وهو ما يطرح تساؤلات حول العلاقة التبادلية بين العنف السياسي وتماسك الحكومات اليمينية.
وتعود جذور سردية الحصار إلى الخطاب الصهيوني المبكر، الذي روَّج لفكرة “الشعب اليهودي المهدد بالانقراض” والذي يحتاج إلى دولةٍ تُحصِّنه من العداء العالمي؛ فقد تحوَّلت هذه السردية إلى جزءٍ من الرواية الرسمية لإسرائيل، حيث صورتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كـ “واحة ديمقراطية” في محيطٍ معادٍ، ولكن نتنياهو أعاد إحياء هذه السردية بطريقةٍ غير مسبوقة، مُدمجًا إياها مع خطابٍ شعبوي يُركِّز على التهديدات الوجودية المباشرة، ففي كتابه “مكان تحت الشمس” (1993)، زعم نتنياهو أن إسرائيل تواجه “خطر الإبادة” من قِبل الأنظمة العربية والإسلاموية، مُحذرًا من أن أي تنازلٍ عن الأراضي سيُضعف قدرتها الدفاعية، ووجد هذا الخطاب صدًى واسعًا بعد فشل اتفاقيات أوسلو في تحقيق السلام، وخاصةً مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000.
وقد تحوَّلت الحروب من أدوات دفاعية إلى استراتيجياتٍ سياسية لتعزيز الشرعية تحت حكم نتنياهو، وخلال حرب غزة 2014 (الجرف الصامد)، رفع نتنياهو شعار “القوة الردعية هي الضامن الوحيد للأمن”، مُحولًا العملية العسكرية إلى عرضٍ لقوة حكومته، ووفقًا لتحليل معهد “فان لير” الصادر عام 2015 استخدم نتنياهو الحرب لتحويل النقاش العام من الفساد المالي – الذي طالته به اتهامات – إلى “الوطنية والأمن”، وأضاف بُعدًا أيديولوجيًّا لهذه الظاهرة، حيث ربط بين الأمن القومي وحتمية حكم اليمين، وفي خطاب له عام 2015، صرح: “فقط اليمين بإمكانه حماية إسرائيل من أعدائها”، وهذا الربط حوَّل الحروب من مجرد أزمات أمنية إلى أدوات لشرعنة سياسات الاستيطان والضم، والتي تعتبر جزءًا من أجندة اليمين المتطرف، ثم تكرر الأمر نفسه في حرب غزة 2021، حيث أدى تصعيد العنف إلى ارتفاع شعبية نتنياهو من 30% إلى 52% خلال أسبوعين، وفقًا لاستطلاعات معهد “إسرائيل ديمقراطيا”، وهذه القفزة لم تكن بسبب النجاح العسكري – فالحرب انتهت بوقف إطلاق نارٍ هشّ – بل بسبب قدرته على توظيف الأزمة لتصوير نفسه كـ “الزعيم الذي لا غنى عنه في زمن الخطر”.
اندلعت المواجهات العسكرية بين إسرائيل وفصائل غزة في مايو 2021، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 250 فلسطينيًّا و13 إسرائيليًّا، وجاءت هذه الحرب في سياق أزمة سياسية داخلية إسرائيلية، حيث فشل نتنياهو في تشكيل حكومة ائتلافية بعد انتخابات مارس 2021، مما أدخل إسرائيل في حالة من الفراغ السياسي، وخلال الحرب؛ تحول نتنياهو من رئيس حكومة تصريف أعمال إلى “قائد أمة في زمن الحرب”، وسيطرت صورته على الإعلام الإسرائيلي كـ “الدرع الواقي لإسرائيل”، وفقًا لتحليل معهد “ميتافيم” للأبحاث السياسية، استخدم نتنياهو الخطاب الأمني لإعادة توحيد قاعدة مؤيديه وتشويه صورة المعارضة المتمثلة في تحالف “التغيير” بقيادة يائير لبيد، والأهم من ذلك؛ أن الحرب عطلت المفاوضات لتشكيل حكومة معارضة، مما أعطى نتنياهو وقتًا إضافيًّا لتعطيل الانتقال السلمي للسلطة في النهاية، وأدت هذه الأزمة إلى حل الكنيست وإجراء انتخابات جديدة في نوفمبر 2022، والتي فاز فيها تحالف اليمين مجددًا.
لم يعتمد نتنياهو على الأزمات العسكرية فحسب، بل طوَّر شبكةً معقدةً من الآليات لترسيخ سردية الحصار، فقد سيطر نتنياهو على المشهد الإعلامي عبر تحالفات مع وسائل إعلامية يمينية مثل قناة “إسرائيل اليوم” وصحيفة “إسرائيل هايوم”، وفي خطابٍ شهير عام 2016، وصف نتنياهو الإعلام الليبرالي بأنه “يمارس الإرهاب الكلامي ضد الدولة”، مُحولًا النقاش حول سياساته إلى “معركة وجودية” بين الوطنيين والخونة؛ هذا التصوير الثنائي سمح له بتهميش أي معارضةٍ باعتبارها “غير وطنية”، ووفقًا لتقرير “مراسلون بلا حدود” الصادر في 2022، انخفضت مرتبة إسرائيل في مؤشر حرية الصحافة من 88 إلى 101 خلال عقدٍ من حكمه، بسبب تضييق الخناق على النقد الموجه لسياساته، ولم يكتف نتنياهو بالتضييق الإعلامي لكن أقرَّت حكومات نتنياهو سلسلة قوانين ربطت بين الأمن وهُوية الدولة، مثل “قانون القومية” عام (2018) الذي يُعرف إسرائيل كـ “دولة قومية للشعب اليهودي”، ويُهمِّش حقوق المواطنين العرب، كما شهد عهده توسعًا في صلاحيات جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) لمراقبة النشطاء السياسيين، تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب”، ووفقًا لمنظمة “عدالة”، تم استخدام القانون الإسرائيلي لسنواتٍ لـ “تكريس التفوق اليهودي”، حيث مُنِحَت صلاحياتٍ استثنائية لاعتقال الفلسطينيين دون محاكمة، ومصادرة أراضيهم.
وفقا لسردية الحصار تحوَّلت إسرائيل تحت حكم نتنياهو إلى “دولة أمةٍ يهودية” على حساب القيم الديمقراطية، وفقًا لتقرير “فريدوم هاوس” (2023)، فإن القوانين مثل “منع النكبة” – الذي يُجرِّم إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية – حوَّلت التاريخ إلى سلاحٍ أيديولوجي، ورغم فاعليتها، بدأت سردية “الدولة المحاصرة” تفقد مصداقيتها وسط جيلٍ إسرائيلي شابٍّ يطالب بتركيزٍ أكبر على العدالة الاجتماعية والتطلعات الفردية، كما أن التطبيع مع بعض الدول العربية يُضعف فكرة “العداء الإقليمي”، لكن نتنياهو – وخلفاؤه من اليمين المتطرف – قد يُعيدون اختراع السردية عبر تهديداتٍ جديدة، مثل التطرف الإسلامي أو البرنامج النووي الإيراني، والمخرج الوحيد يكمن في تفكيك هذه السردية عبر مبادرات سلامٍ جريئة، وضغوطٍ دولية لإجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال، وإحياء معارضةٍ إسرائيلية تُقدِّم بديلًا أمنيًّا لا يعتمد على الخوف الدائم.
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.