ترامب ونتنياهو ونوبل السلام وعبث السياسة واختطاف العدالة

بقلم : ناصر السلاموني

لم يكن غريبًا في زمن اختلطت فيه المفاهيم وتبدلت فيه الموازين أن يتهلل وجه دونالد ترامب، الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية، فرحًا عندما تلقّى ترشيحًا من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لجائزة نوبل للسلام. المفارقة لا تكمن فقط في شخصية المرشح، بل في مَن قدّمه لنيل هذه الجائزة التي لطالما ارتبطت بالسلام والعدالة. بدا المشهد وكأنه مشهد ساخر من مسرح عبثي؛ رئيسان تلطخت أيديهما بالدماء، يتبادلان أدوار البطولة في مسرحية مزيفة تُعرض على منصة الجوائز العالمية.

هذا الترشح الهزلي يطرح سؤالًا وجوديًا بالغ العمق: أي سلام يمثله ترامب، الذي لم يعرف في حياته السياسية سوى لغة السلاح والتهديد والصفقات الاستعمارية؟ وأي نوبل تلك التي تكافئ من شجع على القتل، وشرعن الاحتلال، وأغلق أبواب العدالة في وجه المظلومين؟

لقد عوّدنا الغرب على التشدق بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنه في الواقع يُمارس عكس ما يعلن. تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية – التي تمثل رأس هذا الغرب – مشهدًا دمويًا امتد لعقود، إذ لم تمضِ سوى بضع سنوات على تأسيسها، حتى تورطت في أولى حروبها الخارجية، ومنذ ذلك الحين، لم تهدأ بنادقها.

فمنذ نشأتها قبل نحو 250 عامًا، قضت أمريكا أكثر من 93% من تاريخها في حروب، أي ما يزيد على 222 عامًا من العدوان المستمر. اجتاحت خلالها عشرات الدول، وأسقطت حكومات، ودمّرت حضارات، ونهبت ثروات، وشرّدت شعوبًا. فمن درنة الليبية إلى بغداد، ومن هيروشيما إلى كابول، مرورًا بأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، لم تُبقِ أمريكا مكانًا إلا وطالته يدها بالخراب.

ويُفهم هذا السلوك حين نتأمل في الجذور: فالدولة نفسها تأسست على أنقاض إبادة جماعية للسكان الأصليين من الهنود الحمر، وقامت على الدم والبارود، وما زالت تُكرّس هذا الإرث العدواني، ولكن بأقنعة دبلوماسية وإعلامية مخادعة. تحوّلت إلى قوة عسكرية كاسحة، لكنها فقدت روح الإنسانية، وأصبحت تمارس إرهابًا دوليًا منظّمًا تحت غطاء الشرعية الأممية.

في قلب هذه الصورة المظلمة، يأتي ترامب ليمثل ذروة هذا الانحراف. فهو ليس مجرد رئيس، بل تجسيد حي لسياسة أمريكية لا تعترف إلا بلغة المصالح والسلاح. خلال فترته الأولى (2017–2021)، قدم لإسرائيل ما لم يحلم به أي احتلال: اعتراف بالقدس عاصمةً، وسيادة على الجولان، وتمويلًا عسكريًا هو الأكبر في تاريخ العلاقات بين البلدين، وإغلاقٌ تام لملف اللاجئين، وتجفيف لمصادر دعم وكالة الأونروا.

ثم عاد إلى سدة الحكم في 2025، ليواصل ذات الطريق. هذه العودة لم تكن سوى حلقة جديدة في مسلسل التواطؤ مع الاحتلال، وتكريس مناخٍ يُمنح فيه القاتل غطاءً دوليًا، ويُمنع فيه المظلوم حتى من الصراخ.

ومن قمة هذا الانحياز، جاء ترشيح نتنياهو لترامب لجائزة نوبل، وكأنهما يوجهان صفعة لضحايا الحروب والعدوان، ويحوّلان الجائزة إلى غطاء لتبييض الجرائم، بدلًا من أن تكون تكريمًا لصناع السلام الحقيقيين.

وما يزيد من مرارة المشهد أن الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر حصولًا على جوائز نوبل في العالم، حيث نال علماؤها أكثر من 400 جائزة من أصل نحو 1000 جائزة منحت منذ انطلاقها، أي ما يقارب 40% من إجمالي الجوائز. هذا الكم من التقدير العلمي والأكاديمي كان ينبغي أن يكون بوابة لترسيخ القيم الإنسانية، لكنه – للأسف – لم يشفع لوجه أمريكا القبيح في السياسة الخارجية، الذي تغوّل على الشعوب، وداس على القوانين، وبارك الاحتلال.

الأدهى أن أمريكا استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن أكثر من 88 مرة، منها أكثر من 50 مرة لحماية إسرائيل من أي إدانة أو مساءلة، وهو ما يشكل أكثر من نصف عدد الفيتو الأمريكي عبر التاريخ. أما في عهد ترامب وحده، بفترتيه الأولى والثانية، فقد استخدمت أمريكا هذا السلاح 7 مرات على الأقل لحماية الاحتلال، ومنع قرارات دولية تدعو لوقف إطلاق النار، آخرها خلال عدوان 2024 و2025 على غزة، حين وقفت أمريكا حاجزًا أمام أي قرار يُنقذ الأطفال والنساء والمدنيين من جحيم القصف.

لقد تحوّل “الفيتو” من أداة توازن إلى سلاح بارد يُستخدم لشرعنة القتل، وإجهاض القانون، ومنح القتلة حصانة دائمة. وهنا، يتجلى العبث السياسي بأبشع صوره: أمريكا تقتل، وتُجهض العدالة، ثم ترشح قاتليها لجوائز السلام!

لم يكن ترامب صانع سلام أبدًا، بل كان عرّابًا للحروب النفسية والدبلوماسية، ومهندسًا لمخططات تصفية القضية الفلسطينية، تحت عنوان زائف اسمه “صفقة القرن”. تلك الصفقة التي لم تحمل للفلسطينيين إلا الذل، وللاحتلال كل شيء، دون أن يلتزم الأخير بشيء.

أما نتنياهو، صاحب الترشيح، فهو ذاته من تلطخت يداه بدماء المدنيين في غزة، وارتكب أبشع المجازر في حق شعب أعزل، بدعم أمريكي مباشر، أو بصمت مريب.

ومع هذا، تسعى أبواق الإعلام الغربي إلى تلميع هذه الوجوه، وصناعة صور بطولية من رماد القتل، مستعينين بآلة دعائية لا تكلّ ولا تملّ من تزييف الوعي.

لكن الحقيقة الناصعة التي لا تموت هي أن أمريكا، في عهد ترامب، لم تكن دولة سلام، بل كانت مصنعًا متكاملًا لإنتاج الحروب، تُصدّر الموت، وتغذّي الاحتلال، وتمنح الغزاة غطاءً قانونيًا دوليًا.

إن ترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام ليس إلا دليلًا إضافيًا على تدهور المعايير الأخلاقية في السياسة الدولية، ووقاحة القوى العظمى في التلاعب بقيم العدالة والتاريخ. ولكن رغم كل ذلك، فإن ضمير الشعوب لم يمت، وصوت المقاومة لم ينكسر، والتاريخ لن يُكتب وحده بأقلام الأقوياء، بل بأقلام المظلومين وبدماء الأبرياء، التي لا تسقط بالتقادم.


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

⚙️

أهم الأخبار

عرض كافة المقالات
error: المحتوى محمي !!
دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً
العربيةالعربيةFrançaisFrançais