نهاية قوم عاد رسالة إلى القوى العظمى
بقلم: ناصر السلاموني

لم تخلُ الأرض من الأمم التي اغترّت بقوتها وبطشها، كما تغترّ القوى الكبرى الآن، وعلى رأسها أمريكا، حيث ظن أصحابها أن سلطانهم خالد، فجاءت السنن الإلهية لتذكرهم بأن القوة بلا عدل هلاك، وأن الحضارات القائمة على الكبر والطغيان مصيرها الزوال. ومن قصص هؤلاء الطغاة، تبرز قصة قوم عاد وإرم ذات العماد، ليست مجرد ذكرى من الماضي، بل عبرة لكل أمة اغترّت بسلطتها وظنت أن لا حساب عليها.
تعد مدينة إرم ذات العماد من أكثر المدن التي أثارت الجدل في التاريخ الإنساني، وتنازعت حولها الروايات بين من عدّها مدينة مفقودة طمرتها الرمال، ومن زعم أنها مجرد أسطورة، غير أن القرآن الكريم حسم هذا الجدل حين ذكرها صراحة، وجعل قصتها آية باقية للعظة والاعتبار، فقال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ [الفجر: 6–8].
وترجّح أغلب الدراسات أن إرم كانت تقع في جنوب الجزيرة العربية، في منطقة الأحقاف بين حضرموت وصنعاء، ضمن صحراء الربع الخالي، وهي ديار قوم عاد، الذين ينتسبون إلى عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقد منحهم الله بسطة في الخلق، وقوة في الأجساد، وبأسًا في العمران، فجعل ذلك ابتلاءً لهم لا تكريمًا مطلقًا، لكنهم قابلوا النعمة بالغرور والاستعلاء.
وقبل قوم عاد بقرون، شهدت البشرية أول نموذج للإعراض الجماعي عن دعوة الحق مع نبي الله نوح عليه السلام، الذي لبث في قومه تسعمائة وخمسين عامًا يدعوهم إلى عبادة الله فلما أصرّوا على الكفر، أهلكهم الله بالطوفان، لتكون قصتهم أول شاهد على أن الإعراض عن رسالة السماء بداية السقوط الحضاري.
ثم جاءت عاد من بعدهم، فزادهم الله قوة وبسطة، فقالوا في غرورٍ صريح:
﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت: 15]،
غافلين عن أن الذي منح القوة قادر على سلبها. وفيهم برز شدّاد بن عاد، قائدهم الجبار، شديد البطش، واسع النفوذ، حتى استوقفه وصف الجنة، فاستبد به الكبر، وسعى إلى تشييد جنة أرضية تضاهي – بزَعمه – جنة السماء.
فحشد آلاف العمال، وجمع الذهب والفضة والجواهر، ونُحتت المدينة في الجبال، وأقيمت الأعمدة الشاهقة، وبُنيت القصور والقلاع والمصانع المنحوتة في الصخر، في صورة من الترف والاستعلاء، وقد لخّص القرآن هذا المسلك بقوله:
﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: 128–129].
وفي ذروة هذا الطغيان، أرسل الله إليهم نبيَّه هودًا عليه السلام، أخاهم في النسب، ليقيم عليهم الحجة، فدعاهم إلى التوحيد، وذكّرهم بنعم الله عليهم، وبأنه استخلفهم بعد قوم نوح، وزادهم في الخلق بسطة، وحثّهم على الاستغفار والتوبة، فقال تعالى على لسانه:
﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ [هود: 52].
غير أن الملأ من قومه قابلوه بالسخرية والاستهزاء، واتهموه بالسفاهة والكذب، وتمسكوا بعبادة الأصنام، وقالوا في عناد:
﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾،
فأعلن هود براءته من شركهم، وتوكّله الكامل على الله، ثم جاء أمر الله، فنجّى هودًا والذين آمنوا معه، وأهلك قوم عاد بريحٍ صرصرٍ عاتية، حسبوها سحابة خير، فإذا هي عذاب يستأصلهم:
**﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: 25].
وهنا تتجلّى العبرة الكبرى؛ فالتباهي بالقوة لم يكن حكرًا على قوم عاد، بل هو داء متجدد يتكرر في كل عصر. فكما اغترّ أولئك بأجسادهم وأعمدتهم ومدينتهم، نرى في عالمنا المعاصر دولًا عظمى تفتخر بقوتها العسكرية وهيمنتها السياسية والاقتصادية، وتفرض إرادتها على الشعوب، وتدير الحروب، وتغذّي الصراعات، وتستبيح الدماء، متوهمة أن امتلاك السلاح والنفوذ يمنحها حصانة من الحساب.
إن مشهد الاستعلاء العالمي اليوم، وما تمارسه قوى كبرى من هيمنة وبطش وازدواجية في المعايير، يعيد إلى الأذهان قول عاد:
﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾، غير مدركين أن سنن الله لا تتبدل، وأن القوة إذا تحولت إلى أداة ظلم فإنها تحمل بذور فنائها في داخلها. فكما لم تُغنِ قوة عاد، ولا عمران إرم، عنهم من الله شيئًا، فلن تُغني الترسانات النووية، ولا الأساطيل، ولا التحالفات الدولية إذا جاء أمر الله.
وليس التاريخ ببعيد؛ فقد ساد الفرس والروم قرونًا طويلة، وملأوا الأرض سلطانًا وجيوشًا، وظنوا أن ملكهم لا يزول، ثم دارت عليهم الأيام، وتهاوت إمبراطورياتهم، ولم يبقَ منهم إلا الأطلال والذكريات. وقد عبّر القرآن عن هذه السنة الخالدة بقوله تعالى:
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]،
وقال سبحانه:
﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت: 40].
وفي العصر الحديث، ومع اكتشاف آثار مدينة أوبار عام 1990م، بما ضمّته من أعمدة وبقايا عمران وأنظمة ريّ متقدمة، تتجدد العبرة؛ إذ كانت تلك الأرض يومًا خصبة عامرة، ثم صارت صحراء قاحلة، في صورة مادية شاهدة على صدق الوعد الإلهي، وعلى أن الحضارات إذا قامت على الكبر والطغيان زالت.
وهكذا لم يترك الله آثار الأمم الهالكة عبثًا، بل أبقاها آيات قائمة للتفكر والاتعاظ، كما قال تعالى:
﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ [الزخرف: 56]،
وقال سبحانه:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111].
فلكل جبار نهاية، ولكل طاغية سقوط، وتبقى سنن الله ماضية لا تحابي أحدًا، ليعلم الناس أن القوة بلا عدل هلاك، وأن الهيمنة بلا حق زوال، وأن مصير عاد، والفرس، والروم، ليس حكاية من الماضي، بل إنذارًا مفتوحًا لكل من يسلك طريق الاستعلاء والبطش في كل زمان ومكان:
﴿وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ [الكهف: 59].
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.



