عندما يكون الغباء موهبة

 بقلم : ناصر السلاموني

الغباء، كما أراه، لا يكمن في ضعف التحصيل الدراسي أو نقص الشهادات العلمية، فذلك أهون أنواعه. إنما الغباء الحقيقي هو ما يسكن القلب حين يقسو، والعقل حين يتغطرس، والنفس حين تستغل المنصب لا لخدمة الناس بل للتسلط عليهم.

انظر من حولك… كم من مسؤول جعل من كرسيه أداة بطش واستعلاء على مرؤوسيه والجمهور، كأنه مخلد فيه! يعامل الناس باستخفاف، ويغلق الأبواب في وجه المحتاجين، ناسياً أن الله أمر بالتيسير لا التعسير، فقال:﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]،

وقال نبيّ الرحمة ﷺ:”يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا” [متفق عليه].

بعضهم يرى في الرحمة ضعفًا، وفي الشفقة عيبًا، فلا يقضي حاجة، ولا يُنصف مظلومًا، ولا يُقدّم كفئًا نزيهًا، بل يُقصيه إن نطق بالحق أو أشار إلى فساد. وكأن الصدق بات تهمة تُنفى!

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 39].

كم من شريف صادق أُبعد لأنه رفض الصمت على الظلم! وكم من مبدع طُمس لأنه لم يتقن التملق أو يركب موجة الهتاف الأجوف!

وإذا امتد الغباء إلى المستشفيات، تجده أشد فتكًا؛ إذ يُستقبل المريض ـ في أضعف لحظاته ـ بتعقيدات إدارية، وغلاء فاحش، واستغلال فجّ، حتى صار العلاج تجارة، والرحمة سلعة نادرة.

أما أسعار الكشف والعمليات، فقد تجاوزت المعقول، وكأن المرض ترفٌ لا ابتلاء.

قال ﷺ: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من فى السماء” [الترمذي].

وقال أيضًا:”ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، منها دعوة المظلوم…” [أحمد].

ثم ترى الغباء في الأسواق… حيث الأرصفة استُبيحت لصالح المقاهي والمحلات، وكذلك في المواصلات، إذ صار لكل سائق تسعيرة من رأسه، لا قانون يردعه ولا ضمير يراقبه!

أما الغباء الذي عشّش في عقول النواب، فهم لا يعرفون طريق دوائرهم إلا عند اقتراب موعد صناديق الاقتراع. ولو ترشحوا فرادى، دون دعم حزبي أو فئوي، لانكشف ضعفهم. فقد انشغلوا بأنفسهم وتركوا هموم الناس خلفهم، باحثين عن أموالهم الطائلة التي أنفقوها في حملتهم الانتخابية وتحقيق الهدف الذي من أجله ترشحوا.

وفي السلك الوظيفي يظهر الغباء في أوضح صوره؛ إذ يتولّى الموظف منصبًا أعلى، فيزداد حرصه على البقاء فيه، حتى لو تطلّب الأمر المزيد من التملق أو ما يمكن تسميته بـ”الغباء المنهجي”، الذي لا يرى إلا ما يريد أن يراه.

أما الغباء لدى كبار التجار وصغارهم، فترى الغلاء يظهر في جميع السلع في موجات متتابعة لا تتوقف، وكأنها مباراة أو مزاد. نعم، الأسعار تتضاعف بلا مبرر، والاحتكار أصبح عرفًا، والغش يضرب أعماق الغذاء والدواء، حتى بات الناس يخشون لقمة عيشهم!

قال ﷺ:”من غشّنا فليس منا” [رواه مسلم].وقال الله تعالى:﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الشعراء: 183].

وأخيرًا نأتي إلى الغبي الأكبر… وهو الذي يظن أن الجاه، والمال، والمنصب، يحصّنونه من الحساب، فيتكبر ويتعالى ويحتقر الناس، متناسيًا أن الكبرياء لله وحده، وأن ساعة الرحيل آتية لا محالة. وحين يُقال له: “انزل… فقد انتهى وقتك”، سيتلفت باحثًا عمّن أحسن إليهم، فلن يجد أحدًا!

قال تعالى: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 24].

أقول لك: إن الناس قد عرفوا حقيقتك، ولن يحنوا لك الرأس بعد اليوم. فقد احترموك يومًا خوفًا من منصبك الذي احتميت به، أو طمعًا في مالك… وها قد زالا، فهل بقي لك شيء؟

أيها الغبي… المنصب أمانة، والجاه اختبار، والمال فتنة، والله سائلك عن كل صغيرة وكبيرة.استفق قبل أن تندم!

قال النبي ﷺ:”كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”.وقال أيضًا:

“إن الله سائل كل راعٍ عمّا استرعاه: أحفظ أم ضيّع؟” [النسائي].

فلا تجعل من غبائك تاجًا مزيفًا صنعته نفسك المريضة، وشجّعك على لبسه المنتفعون بك… فالتاريخ لا يرحم، والناس لا تنسى، وربك لا يُغفل.

وأقولها صريحة: مصر دولة قانون، رقابتها يقظة، دستورها راسخ، وقضاؤها نزيه. ورئيسها يقف دومًا في صف الشعب، حريص على مصالحه، داعم لطموحاته.لكن ـ وللأسف ـ فإن بعض الأغبياء، في شتى القطاعات والطبقات، لا يدركون قيمة هذا العدل، ولا كرامة هذا الوطن… وكأنهم يعيشون في وادٍ غير وادي الناس.


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

⚙️

أهم الأخبار

عرض كافة المقالات
error: المحتوى محمي !!
دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً
العربيةالعربيةFrançaisFrançais