مُنذُ بدايةِ العصرِ الحديث واقتربت الفجوةُ التي كانت تفصلنا عن العالمِ الخارجي وتبعدنا تماماً عن مظاهرِ حياةِ الآخرين في مختلفِ دولِ العالم ، بل أصبحت الكرةُ الأرضيةُ قريةً صغيرةً نستطيعُ أن نمشي في مناكبها ونجوب شوارعها ودروبها لمتعةِ السفرِ وحركةِ التجارةِ والاستثمار ، وحريةِ التنقلِ حتى ونحنُ جالسونَ على مقاعدِنا .
كل ذلك بفضلِ التطورِ الكبير الذي يشهده عالمُنا في وسائلِ النقلِ والاتصالاتِ وتدفقِ المنتجاتِ العصريةِ إلى الأسواق ، فظهرت السيارات والطائرات والدراجات البخارية ثم الراديو والسينما والتليفزيون وغيرها من الوسائلِ التي جعلتنا لسنا بمنأى عن ثقافاتِ الآخرين ، ومنها انطلقت فكرةُ تبادلِ الثقافاتِ وحوارِ الأديان بين الشعوبِ والمجتمعات ، إلى أن وصلنا لاختراعِ الحاسب الآلي ” الكمبيوتر ” الذي غَيّرَ وجه العالم وأدّى إلى نهضةٍ سريعةٍ في كافةِ المجالات ، إذ كان له عظيمُ الأثر في تطورِ قطاعِ الاتصالاتِ وتحسينِ الخدماتِ وتسهيلِ الحياةِ العامة .
عند هذا الحد هو تطويعٌ لخدمةِ البشرية ، حتى ظهورِ الهواتفِ الذكيةِ بتطبيقاتِها التكنولوجيةِ المتعددة التي سَهّلت حياةَ الإنسان وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من نشاطه اليومي حتى امتلكته وسيطرت على إدراكِه وحواسهِ المختلفة .
لا أحدٌ ينكرُ الدور الكبير الذي وفرته التكنولوجيات الحديثة في عصرِنا من نهضةٍ كبيرةٍ في تبادلِ العلومِ والمعرفةِ وتعزيزِ حركةِ التجارةِ بين الدول وإبراز مقوماتِ البلدانِ والإطلاعِ على الثقافاتِ المختلفةِ للشعوب ” كجانبٍ إيجابي ” لا يمكن أغفاله ، لكن الاستغلالَ السيئ لهذه التكنولوجيا هو ما يجعلنا ندقُ ناقوسَ الخطرِ حول ما تتضمنه من تطبيقاتٍ تبدأ معها رحلةُ الصعودِ إلى الهاوية خاصة مع ظهور ما يطلق عليه ” الميتافيرس ” أو عالم ما وراء الكون.
والميتافيرس باختصار هو تطبيقٌ يتضمنُ منصةً للعالمِ الافتراضي على الإنترنت تمكن مستخدميه من إنشاء مجسمات لكاملِ جسدهم ” أفاتار ” كما هو الحال في ألعابِ الفيديو لإخفاءِ هويتهم الحقيقية من خلالِ ارتداءِ نظاراتِ الواقعِ الافتراضي ومنها تستطيعُ أن تعيشَ عالماً مليئاً بالإثارةِ والتشويق والرفاهية ، لكنه أكثر عزلة عن الواقع الحقيقي .
إذنً هي تقنيةٌ تجعلُ العالم ” في مستقبلِ الإنترنت ” أشبه ببيئةٍ ثلاثيةِ الأبعاد يمكن للمستخدمينَ الدخول فيها والاستمتاع بأحد مكوناتها وعناصرها وبالتالي ترى المستخدمَ منفصلاً تماماً عن العالمِ الواقعي ليجدَ نفسَه محاطاً بمجموعةٍ من المجتمعاتِ الافتراضية التي لا نهايةً لها ولا بداية ، ويتمُ استخدامُ التقنيةِ في العديدِ من المجالات أهمها اجتماعات العمل الافتراضية واللعب وغيرها من الأنشطةِ اليوميةِ التي يقوم بها المستخدم كلقاء الأصدقاء والذهاب إلى دور السينما وإقامة الحفلات الموسيقية .
ولكن مع تنامي منصات ميتافيرس ومشاريع الواقع الافتراضي التي تخترقُ جميعَ الحواجزِ ، تزدادُ المخاوفُ حول ظهورِ العديدِ من المشكلاتِ التي تفسدُ جهودَ تطويعِ التكنولوجيا لخدمةِ البشرية ، من خلالِ فتحِ أبوابِ الجريمة ، حيث سيعيشُ البشر في عصرٍ آخر ومع أشخاصٍ آخرين ، بما يسمحُ لعصاباتِ الإنترنت بارتكابِ العديدِ من الجرائمِ الإلكترونيةِ الجديدة ، إضافةً إلى التحرشِ الجنسي ضد الأطفال والبالغين ، ورغم أن التلامسَ في العالمِ الافتراضي يختلفُ عن التلامسِ المادي على أرضِ الواقع الإ أن التقنياتِ الجديدةَ المرفقة مع نظاراتِ الواقع الافتراضي والأجهزة المصاحبةِ لها توفرُ شعوراً مشابهاً .
ربما كثيرٌ منا يحتاجُ إلى مثلِ هذه التقنية كي يهربَوا ” في رحلةٍ ” من صغوطاتِ حياتِهم اليوميةِ المفعمةِ بالأحداثِ والمشكلاتِ التي لا حصرَ لها ، ليختاروا عالماً موازياً أكثرَ أمناً وسلاماً وهدوءاً عن عالمهم الحقيقي ، ولا يعلموا أنهم يخلقونَ لأنفسهم كابوساً أبشع من الذي يعيشون فيه، ولكنها في النهاية ” قطعاً ” رحلةٌ بلا عودة ، فالخبراءُ وعلماءُ النفس يؤكدون أن استخدامَ العالم الافتراضي بشكلٍ مفرط قد يتسببُ في زيادةِ فجوةِ العزلةِ الاجتماعية ، واضطراباتِ النوم ، مما يؤثرُ سلباً على سلامةِ الصحةِ العضويةِ والنفسية ، وبالتالي ظهور حالاتِ الإكتئاب ، والتوتر ، والقلق ، وتقلب المزاج ، وعدم الشعور بالرضا ، وفقدان الرغبة والشغف ، وعدم الإحساس بالوقت ، وتوليد التحدي والعنف مع الآخرين ، وخلق صفة الأنانية والعدوانية ، والإصابة بمرض التوحد ، والخلط بين الواقعِ والخيال ، بالإضافة إلى تراجعِ المستوى الدراسي ، والتأثيرِ الأخلاقي والتربوي والعقائدي .
الفوائدُ من التكنولوجيا كثيرةٌ ومتعددة ، لكن العواقبَ مدمرةً على أجيالٍ وشبابٍ هم مستقبل أوطانهم ، فأدمانُ التكنولوجيا بات خطراً يهددُ أطفالنا وشبابنا ليفتحَ البابَ إلى مزيدٍ من السلوكياتِ الخاطئةِ والتعرضِ لأمراضٍ نفسيةٍ وعصبيةٍ لا نأمن عقباها .
عصام التيجي
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.