“هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان” جزيرةُ غَمام .. بين الصوفيةِ وحلفاءِ الشيطان

عصام التيجي .. يكتب :

0

الباحثُ عن الحبِ والجمالِ وتهذيبِ النفس ” طريقُه الإحسان ” ، فهو المرتبةُ الثالثةُ من مراتبِ الدينِ الحنيف بعد الإسلامِ والإيمانِ ، ومسلكُ الإحسانِ هو التصوف ، فمثلما اهتمَ الفقةُ بتعاليمِ شريعةِ الإسلام ، واهتمت العقيدةُ بالإيمان ، فإن الصوفيةَ اهتمت بتحقيقِ مقامِ الإحسان ، وفيه الارتقاء بالروحِ ، والسمو بالمشاعرِ الإنسانيةِ ، والتأسيس الصحيح لعلاقةِ العبد بربِه ، ومنه الاكتشاف الحقيقي لمعنى الدين .

ليست مقدمةً بقدرِ ما هي عصبُ الحوار ، الذي تاهت بين دُروبِه المختلفةِ العقولُ والقلوب ، وروحنا نبحثُ عن أسبابٍ أخرى لمعنى الدين ، وتطبيق أحكامِه وفقَ آراءِ المتشددينَ والمتحذلقينَ ، والإسلام منهم برئ .

” عرفات ” هو واقعُ الفكرةِ الصوفيةِ في الحدوتةِ القادمة ، إحدى الشخصياتِ التي تقطنُ جزيرةَ غَمام ، تلك الجزيرةُ التي تنتمي إلى صعيدِ مصر لكنها مطلةٌ على البحرِ الأحمرِ تابعة لمدينةِ القصير والواقعة على بُعدِ 180 كم من مدينةِ الغردقة عاصمةِ محافظةِ البحرِ الأحمر .

جزيرةُ غَمام عملٌ دراميٌ دَخَلَ حلبةَ المنافسةِ و السباقِ الرمضاني بقوةِ ، كَشَفَ عن تفاصيلِها الكاتبُ الصعيدي المتميز ” عبد الرحيم كمال ” ابن العيساوية شرق مدينة سوهاج ، الذي تَشكلَت مَلامحهُ من الطينِ المصري ، ونبتت أفكارهُ من أفكارِ وعبقريةِ العظماء ، الذين خرجوا من عباءةِ الصعيد المفعم بالمبدعينَ والمحبينَ لترابِ بلدهم .

خَرجَ علينا بدراما رمضانية واقعُها صنعه الخيال ، دون المساس بالثوابتِ أو الزج بجماعاتٍ أو فئاتٍ بعينها ، فَقَدمَ رموزَ الخيرِ والشرِ في مطلقِها دون النبشِ في نارِ الفتنِ الموقدةِ تحت الرماد .

الفكرةُ بدايتُها مثيرة مَزَجت بين حاضرِ الجزيرةِ وماضيها ، بعد تحول اسمها إلى جزيرة ” أولاد عرفات ” وزارها الرئيسُ الراحلُ محمد أنور السادات عام 1977 ميلادية لافتتاحِ مسجدِ الجزيرة ، في إشارة مهمة وكأن الحكايةَ الشعبيةَ قصةٌ ذَاتَ مغزى تُقَدم لحاكمٍ أطلَق وقتها تيارَ التشددِ والتطرفِ الديني لمحاربةِ خُصومهِ السياسيين ، وهنا يستأذنُ إمامُ الجامعِ الرئيس السادات ليحكي له حكاية جزيرةِ غَمام التي حل عليها الغضبُ وحَجَبَ الغَمامُ نورَ شمسِها الساطع بفعلِ ظلمةِ قلوبِ أبنائِها والطامعينَ فيها من خارجها .

قَدمَ لنا عبد الرحيم كمال مواجهةً بين الخيرِ والشر ، ومباراةً أبديةً بين حلفاءِ الشيطان والزاهدينَ المحافظينَ على ميراثِ الأنبياء ، درات رحاها في تلك الجزيرةِ مع بداياتِ القرن الماضي ، وتحديداً في عام 1914 ميلادية .

قوى الشرِ كثيرةٌ ، وقوى الخيرِ ضعيفةٌ ، جسدها ” عرفات ” أحدُ أبطالِ الحدوتة ، زاهدٌ متصوف ، أحد مريدي العالم الصوفي الشيخ مدين شيخ الجزيرة وقتها ، الذي رَحلَ وميراث عرفات منه الرضا وسبحته وكتاب ” دفتر ” العلم والمعرفة يحكي طبائعَ أهلِ الجزيرةِ وأخطائهم واعترافهم بالذنب ، ليصبحَ عرفات شعاعَ النورِ الذي يخترقُ ظلماتِ الجهلِ والفقرِ والقهرِ والقافذينَ على الدينِ بسلاحِ الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر ، وهم باقي شخوص الحدوتة الذين يمثلونَ قوى الشر ، منهم الشيخ ” محارب ” أيضاً وهو أحدُ مريدي الشيخ مدين ولكن لم يرث منه إلا مكانه في المسجد وله من اسمه نصيب ، فهو المتشددُ المتطرفُ الذي يستخدمُ أموالَ المسجدِ لجلبِ السلاح ، و” يسري ” المريد الثالث للشيخ مدين الذي ورث دارَ علمه لتحويل الدين إلى أحجبةٍ وتمائمَ تعبيراً عن مفهومِ الدينِ الشعبي في إشارة أيضاً إلى التيسيير .

المباراةُ لم تكتمل بعد ، ليدخل ” عجمي ” كبير الجزيرة ذو الشخصيةِ الرمادية التي تريدُ تحقيقَ العدلِ دون المساس بميراثِه من الهيبةِ والسلطة حتى ولو على حساب أهل الجزيرة ، ونائبه “بطلان” وبالطبع من اسمِه نصيب ، وهنا نصلُ إلى شخصياتِ طرحِ البحر غرباء الدين والوطن الذي يمثلهم خلدون وجماعته من الغجر شياطين الإنس والجن مهمتهم محددة ” السيطرة على الجزيرة ” بسلاح الذل والمهانة وأغواء أهل الجزيرة في البداية ، وبالطبع النهاية معروفة ، لكن النصرَ دائماً يأتي من عندِ الله.

أهلُ جزيرةِ غَمام هم أنا وأنت ومن سبقونا ومن سيأتي بعدنا ، فالصراعُ بين الخير والشر قائمٌ إلى يومٍ تُبعثُ فيه النفوس ، وتشخصُ فيه الأبصار ، وحلفاءُ الشيطان كثيرون ، والقابضونَ على دينهم مازالت تقبضُ أيديهم النيران ، لكن الخيرَ سيظلُ في أمتِنا كلما أحطنا أنفسنا بقيمِ الحبِ والجمال ، وقول عرفات المأثور ” الحمد لله على الحمد لله ” فمن حمد ربه زاده ، فالحمدُ لله على نعمةِ الحمد ، بها تستقيمُ الأمور ومسلكها إلى الإحسان .

تحيةً لأبطالِ العملِ الدرامي الذي خلا من فكرةِ النجمِ الأوحد ، بل خلا التترُ من أسماءِ الفنانين ، ليمثلَ جميع عناصره الأبطالَ الحقيقيينَ ، من ممثلينَ ومخرجينَ ومصورينَ وأضاءةٍ وديكور وملابس ، لم تفصلنا عن الحقبةِ الزمنيةِ التي دارت في أجوائِها العملِ الدرامي .

تحيةً إلى ” عبد الرحيم كمال ” ابنِ الصعيد مؤلف جزيرة غَمام الذي قَدَمَ أخطرَ محاولاته لقراءةِ واقعنا البائس ، وترجمة علاقةِ الناسِ بالدينِ والتدين ، دون أن يغفل قراءاتٍ أخرى لأسبابِ الفتنِ والانهيار ، وللعناصرِ التي تجعلُ مجتمعنا في مهبِ الريح والزوابع .

تحيةً لبراعةِ الوصفِ والتحليل ووضعِ الشخصيةِ الصوفيةِ في قلبِ الواقعِ المرير وليست منعزلةً عنه في خلوةِ العابد .

تحتةً إلى الفنان أحمد أمين ” عرفات ” صاحب الفكرةِ والمشروع في جزيرةِ غَمام الذي أعاد إليها المسار الصحيح لمن بعده .

” ولنكن جميعاً أولاد عرفات ”

عصام التيجي


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً