الباحثُ عن الحبِ والجمالِ وتهذيبِ النفس ” طريقُه الإحسان ” ، فهو المرتبةُ الثالثةُ من مراتبِ الدينِ الحنيف بعد الإسلامِ والإيمانِ ، ومسلكُ الإحسانِ هو التصوف ، فمثلما اهتمَ الفقةُ بتعاليمِ شريعةِ الإسلام ، واهتمت العقيدةُ بالإيمان ، فإن الصوفيةَ اهتمت بتحقيقِ مقامِ الإحسان ، وفيه الارتقاء بالروحِ ، والسمو بالمشاعرِ الإنسانيةِ ، والتأسيس الصحيح لعلاقةِ العبد بربِه ، ومنه الاكتشاف الحقيقي لمعنى الدين .
ليست مقدمةً بقدرِ ما هي عصبُ الحوار ، الذي تاهت بين دُروبِه المختلفةِ العقولُ والقلوب ، وروحنا نبحثُ عن أسبابٍ أخرى لمعنى الدين ، وتطبيق أحكامِه وفقَ آراءِ المتشددينَ والمتحذلقينَ ، والإسلام منهم برئ .
” عرفات ” هو واقعُ الفكرةِ الصوفيةِ في الحدوتةِ القادمة ، إحدى الشخصياتِ التي تقطنُ جزيرةَ غَمام ، تلك الجزيرةُ التي تنتمي إلى صعيدِ مصر لكنها مطلةٌ على البحرِ الأحمرِ تابعة لمدينةِ القصير والواقعة على بُعدِ 180 كم من مدينةِ الغردقة عاصمةِ محافظةِ البحرِ الأحمر .
جزيرةُ غَمام عملٌ دراميٌ دَخَلَ حلبةَ المنافسةِ و السباقِ الرمضاني بقوةِ ، كَشَفَ عن تفاصيلِها الكاتبُ الصعيدي المتميز ” عبد الرحيم كمال ” ابن العيساوية شرق مدينة سوهاج ، الذي تَشكلَت مَلامحهُ من الطينِ المصري ، ونبتت أفكارهُ من أفكارِ وعبقريةِ العظماء ، الذين خرجوا من عباءةِ الصعيد المفعم بالمبدعينَ والمحبينَ لترابِ بلدهم .
خَرجَ علينا بدراما رمضانية واقعُها صنعه الخيال ، دون المساس بالثوابتِ أو الزج بجماعاتٍ أو فئاتٍ بعينها ، فَقَدمَ رموزَ الخيرِ والشرِ في مطلقِها دون النبشِ في نارِ الفتنِ الموقدةِ تحت الرماد .
الفكرةُ بدايتُها مثيرة مَزَجت بين حاضرِ الجزيرةِ وماضيها ، بعد تحول اسمها إلى جزيرة ” أولاد عرفات ” وزارها الرئيسُ الراحلُ محمد أنور السادات عام 1977 ميلادية لافتتاحِ مسجدِ الجزيرة ، في إشارة مهمة وكأن الحكايةَ الشعبيةَ قصةٌ ذَاتَ مغزى تُقَدم لحاكمٍ أطلَق وقتها تيارَ التشددِ والتطرفِ الديني لمحاربةِ خُصومهِ السياسيين ، وهنا يستأذنُ إمامُ الجامعِ الرئيس السادات ليحكي له حكاية جزيرةِ غَمام التي حل عليها الغضبُ وحَجَبَ الغَمامُ نورَ شمسِها الساطع بفعلِ ظلمةِ قلوبِ أبنائِها والطامعينَ فيها من خارجها .
قَدمَ لنا عبد الرحيم كمال مواجهةً بين الخيرِ والشر ، ومباراةً أبديةً بين حلفاءِ الشيطان والزاهدينَ المحافظينَ على ميراثِ الأنبياء ، درات رحاها في تلك الجزيرةِ مع بداياتِ القرن الماضي ، وتحديداً في عام 1914 ميلادية .
قوى الشرِ كثيرةٌ ، وقوى الخيرِ ضعيفةٌ ، جسدها ” عرفات ” أحدُ أبطالِ الحدوتة ، زاهدٌ متصوف ، أحد مريدي العالم الصوفي الشيخ مدين شيخ الجزيرة وقتها ، الذي رَحلَ وميراث عرفات منه الرضا وسبحته وكتاب ” دفتر ” العلم والمعرفة يحكي طبائعَ أهلِ الجزيرةِ وأخطائهم واعترافهم بالذنب ، ليصبحَ عرفات شعاعَ النورِ الذي يخترقُ ظلماتِ الجهلِ والفقرِ والقهرِ والقافذينَ على الدينِ بسلاحِ الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر ، وهم باقي شخوص الحدوتة الذين يمثلونَ قوى الشر ، منهم الشيخ ” محارب ” أيضاً وهو أحدُ مريدي الشيخ مدين ولكن لم يرث منه إلا مكانه في المسجد وله من اسمه نصيب ، فهو المتشددُ المتطرفُ الذي يستخدمُ أموالَ المسجدِ لجلبِ السلاح ، و” يسري ” المريد الثالث للشيخ مدين الذي ورث دارَ علمه لتحويل الدين إلى أحجبةٍ وتمائمَ تعبيراً عن مفهومِ الدينِ الشعبي في إشارة أيضاً إلى التيسيير .
المباراةُ لم تكتمل بعد ، ليدخل ” عجمي ” كبير الجزيرة ذو الشخصيةِ الرمادية التي تريدُ تحقيقَ العدلِ دون المساس بميراثِه من الهيبةِ والسلطة حتى ولو على حساب أهل الجزيرة ، ونائبه “بطلان” وبالطبع من اسمِه نصيب ، وهنا نصلُ إلى شخصياتِ طرحِ البحر غرباء الدين والوطن الذي يمثلهم خلدون وجماعته من الغجر شياطين الإنس والجن مهمتهم محددة ” السيطرة على الجزيرة ” بسلاح الذل والمهانة وأغواء أهل الجزيرة في البداية ، وبالطبع النهاية معروفة ، لكن النصرَ دائماً يأتي من عندِ الله.
أهلُ جزيرةِ غَمام هم أنا وأنت ومن سبقونا ومن سيأتي بعدنا ، فالصراعُ بين الخير والشر قائمٌ إلى يومٍ تُبعثُ فيه النفوس ، وتشخصُ فيه الأبصار ، وحلفاءُ الشيطان كثيرون ، والقابضونَ على دينهم مازالت تقبضُ أيديهم النيران ، لكن الخيرَ سيظلُ في أمتِنا كلما أحطنا أنفسنا بقيمِ الحبِ والجمال ، وقول عرفات المأثور ” الحمد لله على الحمد لله ” فمن حمد ربه زاده ، فالحمدُ لله على نعمةِ الحمد ، بها تستقيمُ الأمور ومسلكها إلى الإحسان .
تحيةً لأبطالِ العملِ الدرامي الذي خلا من فكرةِ النجمِ الأوحد ، بل خلا التترُ من أسماءِ الفنانين ، ليمثلَ جميع عناصره الأبطالَ الحقيقيينَ ، من ممثلينَ ومخرجينَ ومصورينَ وأضاءةٍ وديكور وملابس ، لم تفصلنا عن الحقبةِ الزمنيةِ التي دارت في أجوائِها العملِ الدرامي .
تحيةً إلى ” عبد الرحيم كمال ” ابنِ الصعيد مؤلف جزيرة غَمام الذي قَدَمَ أخطرَ محاولاته لقراءةِ واقعنا البائس ، وترجمة علاقةِ الناسِ بالدينِ والتدين ، دون أن يغفل قراءاتٍ أخرى لأسبابِ الفتنِ والانهيار ، وللعناصرِ التي تجعلُ مجتمعنا في مهبِ الريح والزوابع .
تحيةً لبراعةِ الوصفِ والتحليل ووضعِ الشخصيةِ الصوفيةِ في قلبِ الواقعِ المرير وليست منعزلةً عنه في خلوةِ العابد .
تحتةً إلى الفنان أحمد أمين ” عرفات ” صاحب الفكرةِ والمشروع في جزيرةِ غَمام الذي أعاد إليها المسار الصحيح لمن بعده .
” ولنكن جميعاً أولاد عرفات ”
عصام التيجي
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.