الصين تستطيع حرمان أمريكا من “الآي فون”، ليس هذا فقط، بل إنها تستطيع منع واشنطن من إنتاج صواريخها وقنابلها الذكية، بفضل هيمنتها على إنتاج المعادن الأرضية النادرة.
حين عرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب شراء غرينلاند عام 2019، اعتقد العالم- أو تمنى- أنّه كان يمزح. إذ غرّد لارس لوك راسموسين، رئيس الوزراء الدنماركي الأسبق، قائلاً: “لا بد أنّها كذبة أبريل/نيسان.. ولكنها ليست في أوانها”.
في حال تغاضي المرء عن حقيقة أنّ غرينلاند (أكبر جزيرة في العالم) لم تكُن معروضةً للبيع من الأساس، فإن طلب ترامب كان يبدو من زاويةٍ أخرى تحركاً استراتيجياً، بل قد يكشف عن لهفة أمريكية للهيمنة على موارد الجزيرة الثمينة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
فهذه المنطقة ذاتية الحكم التابعة لمملكة الدنمارك تضم أكبر رواسب المعادن الأرضية النادرة غير المستكشفة في العالم- وهي الموارد الضرورية التي تحتاجها الولايات المتحدة لبناء كل شيء من أجهزة آيفون وحتى الصواريخ، وتعتمد في الحصول عليها بشكلٍ شبه كامل على الصين الآن.
وفي الأسابيع الأخيرة، احتلت غرينلاند عناوين الأخبار مرةً أخرى بفضل معادنها الأرضية النادرة والمطلوبة بشدة، لكن العرض هذه المرة جاء من شركةٍ أسترالية مملوكة لشركة صينية.
ولم تطلب الشركة شراء غرينلاند نفسها، بل مجرد منجم من المتوقع أن يُنتج 10% من إجمالي المعادن الأرضية النادرة في العالم.
شركة أسترالية مملوكة لشركة صينية حاولت التنقيب في منجم عملاق للمعادن الأرضية النادرة في جزيرة غرينلاند/رويترز
وأجريت في الجزيرة انتخابات مبكرة بسبب الخلاف حول السماح لشركة أسترالية مملوكة لمؤسسة صينية بعملية تنقيب ضخمة في البلاد، إذ قال المعارضون للمشروع الضخم إن غالبية سكان الجزيرة، ومعظمهم من سكان الإنويت (الإسكيمو) الأصليين، يعارضون المشروع لأسباب بيئية إلى حد كبير، حسبما ورد في تقرير لموقع صحيفة New York Post الأمريكية.
وأفضت الانتخابات في جزيرة غرينلاند لفوز الائتلاف المعارض لمنح الشركة الأسترالية حق التنقيب في المنجم العملاق.
وتقول شركة Greenland Minerals، التي تقف وراء مشروع التعدين، إن موقع كفانيفيلد الذي كانت تسعى للتنقيب فيه لديه “القدرة على أن يصبح أهم منتج للعناصر النادرة في العالم الغربي” ويمكن أن يكون “مورداً عالمياً مهماً للعناصر النادرة لعقود عديدة”.
فما هي هذه المعادن ولماذا يسعى الجميع للحصول عليها؟
ما هي الصناعات التي تستخدم المعادن الأرضية النادرة؟
في الأصل، المعادن الأرضية النادرة هي مجموعة تتألّف من 17 عنصراً معدنياً موجودة في الجدول الدوري. و15 من هذه العناصر تأتي ضمن سلسلة اللانثانيدات، أما العنصران الآخران فهما السكانديوم والإتريوم- ويقعان في مكانٍ آخر من الجدول الدوري لكنهما يشتركان مع البقية في خصائص كيميائية مشابهة.
وتتمتع هذه العناصر بخصائص فريدة من نوعها تجعلها مكونات أساسية في تطوير التكنولوجيا الحديثة.
إذ يُستخدم اللانثانوم مثلاً في تحويل النفط الخام من الأرض إلى بنزين وديزل، بحسب تصريحات المدير الإداري لشركة استشارات المعادن Adamas Intelligence رايان كاستيلوكس لمجلة Foreign Policy الأمريكية. أما النيوديميوم، فهو يتمتع بخصائص مغناطيسية تسمح له بإنتاج مغناطيسات قوية للغاية- وهي المغناطيسات التي مكنتنا من تصغير الأجهزة والإلكترونيات المنتشرة مثل أجهزة آيفون.
تُستخدم المعادن الأرضية النادرة في صناعة الأجهزة عالية التقنية، بما في ذلك الهواتف المحمولة والشاشات المسطحة والسيارات الكهربائية وتوربينات الرياح والأسلحة، وقد يعني رفض سكان جزيرة غرينلاند المشروع الصيني التأثير على أسعار هذه المعادن الأرضية النادرة.
يقول جيم كينيدي، رئيس ThREE Consulting: “المعادن الأرضية النادرة غيّرت كل شيء في ما يتعلّق بالسيارات، والتكنولوجيا الخضراء، ودقة أنظمة الأسلحة. ولهذا صارت ضروريةً للغاية. هل تريد سيارة تويوتا بريوس؟ ستحتاج إلى المعادن الأرضية النادرة. هل تريد سيارة تيسلا بعيدة المدى؟ ستحتاج إلى المعادن الأرضية النادرة. هل تريد صاروخاً جوالاً بدقةٍ تصل إلى مترٍ واحد؟ ستحتاج إلى المعادن الأرضية النادرة”.
هل المعادن الأرضية النادرة، نادرة بالفعل؟
إنّها ليست نادرةً في الواقع. فعناصر المعادن الأرضية النادرة متواجدةٌ بوفرة في الطبيعة- لكن العثور عليها بتركيزات تسمح بالتعدين هو الأمر الصعب.
فبخلاف معادن مثل النحاس والذهب، التي تُشكّل رواسب غنية يسهل تعدينها، تُعتبر عناصر المعادن الأرضية النادر “غير اجتماعية نوعاً ما” بحسب كاستيلوكس. ولها خصائص معينة تجعلها تتفرّق بين مختلف أنواع الصخور، بدلاً من التجمع معاً، ونادراً ما يُعثر عليها بكميات كبيرة بحيث يصير استخراجها ومعالجتها أمراً مجدياً من الناحية الاقتصادية.
كيف سيطرت الصين على إنتاج هذه المعادن رغم أن أمريكا كانت أكبر منتج
رغم العثور على رواسب المعادن الأرضية النادرة حول العالم، لكن الصين احتكرت هذه الصناعة، إذ تُسيطر على كل خطوة، بدءاً من معالجة المواد الخام وصولاً إلى تكريرها وإنتاج المغناطيسات.
ولم يكُن الوضع كذلك دائماً: حيث كانت الولايات المتحدة هي أكبر منتج للمعادن الأرضية النادرة حتى عام 1980. والآن، ذهب هذا اللقب إلى بكين. إذ أوضح كاستيلوكس: “بدأت الصين التعدين على نطاقٍ واسع وبكميات كبيرة، فأغرقت الأسواق العالمية بعناصر المعادن الأرضية النادرة بسعرٍ زهيد، لدرجة أنّها أخرجت المنافسين- مثل الولايات المتحدة- من السوق بنهاية المطاف. وبذلك، تمتّعت بهذا الاحتكار لتعدين المعادن الأرضية النادرة”.
والصين الآن هي موطن أكبر احتياطيات المعادن الأرضية النادرة في العالم، حيث تستحوذ على 37% من إجمالي الاحتياطات العالمية لها. وفي عام 2017، أنتجت الصين 80% من المعادن الأرضية النادرة، رغم أنّ الرقم تراجع إلى نحو 63% عام 2019.
لماذا تُعد الهيمنة الصينية أمراً خطيراً؟
إنّ سيطرة بكين على السوق جعلت من الصعب- وشبه المستحيل- على الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا أن تبني سلاسل التوريد الخاصة بها وتديرها بشكلٍ تنافسي. وقارن كاستيلوكس وضع السوق الحالي بمتجرٍ صغير يُحاول المنافسة مع عملاق البيع بالتجزئة Walmart، قائلاً إنّ الاحتكار الصيني “يمنحهم اقتصاداً كبيراً لدرجةٍ تجعل التنافس معه تحدياً بالغ الصعوبة على بقية العالم. لقد استغلوا حجمهم وتكاملهم الرأسي بأسلوبٍ استراتيجي حتى يتمكنوا من تشغيل العمليات بشكلٍ مربح ويُقدموا أسعاراً منخفضة لبقية العالم، وبهذا أحكموا قبضتهم عبر هذه الممارسات الاحتكارية”.
وقد استغلت الصين إمداداتها من المعادن الأرضية النادرة لجذب المصنعين الأجانب وزيادة قوتها الصناعية. كما أنّ نفوذ بكين زاد المخاوف من أنّها ستمتص الصناعات عالية التقنية من البلدان الأخرى- وأنها ستحظى بنفوذٍ كبير في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي والتطور التكنولوجي.
حالات ابتزاز
لن تكون هذه هي المرة الأولى التي تستغل فيها الصين هيمنتها على المعادن الأرضية النادرة لأغراضٍ سياسية. ففي عام 2010، عقب تصاعد التوترات بين بكين وطوكيو، حظرت الصين- التي كانت تُنتج 93% من الإجمالي العالمي وقتها- صادراتها من المعادن الأرضية النادرة إلى اليابان.
وأثار رد فعل بكين “جنون العالم” بحسب كاستيلوكس لأنّه “أظهر للمستخدمين النهائيين استعداد الصين لاستخدام المعادن الأرضية النادرة كسلاحٍ سياسي”.
وعاود هذا التهديد الظهور مرةً أخرى حين تنازع ترامب مع الرئيس الصيني شي جين بينغ حول التعريفات الجمركية عام 2019، حيث لوحت بكين بشكل غير رسمي بقطع الصادرات التي تنتج بكين نسبة كبيرة منها، وإيقاف التصنيع الأمريكي بشكل مفاجئ.
الصين لوحت بمنع المعادن الأرضية النادرة عن أمريكا رداً على الحرب التجارية التي أعلنها ترامب/رويترز
إذ اقترحت وسائل الإعلام الحكومية الصينية حينها أنّ بكين عليها استخدام معادنها الأرضية النادرة في مواجهتها مع الولايات المتحدة.
قلقد ورد في إحدى المقالات: “تمتلك الصين العديد من الأدوات المتنوعة في متناول يدها، مثل تقليل عدد تراخيص تعدين المعادن الأرضية النادرة، ورفع معايير وصول المُعدّنين إلى السوق، وتقليل صادرات منتجات المعادن الأرضية النادرة الرئيسية، والحد من الاستثمارات الصادرة والواردة في الصناعات ذات الصلة. واحتكار الصين لإنتاج المعادن الأرضية النادرة سيساعد بكين في السيطرة على شريان حياة قطاع الصناعات عالية التقنية بالولايات المتحدة”.
والصين دولة مساحة عمل الصحافة فيها لا تجعلنا نفترض أن هذا مجرد حديث أجوف من صحفي متحمس.
مضرة وصديقة للبيئة في الوقت ذاته
تتسبب المعادن الأرضية النادرة في إنتاج نفايات مُشعّة وانبعاث ملوثات رئيسية أخرى، وهذا من أسباب تراجع تعدين المعادن الأرضية النادرة داخل الولايات المتحدة بشكلٍ حاد في العقود الأخيرة. وفي الصين، تسبب إنتاجها في إلقاء مواد ملوثة خطيرة في المياه الجوفية والسطحية.
ولكنها ليست سيئةً في العموم. إذ إنّها ضروريةٌ أيضاً لدفع الطاقة النظيفة، ومحوريةٌ في تصميم توربينات الرياح والسيارات الكهربائية صديقة البيئة.
حيث أوضح كينيدي: “إذا كنا نسعى إلى مستقبلٍ أخضر من النوع الذي يُثير حماسة الرئيس بايدن، فلن نبلغه بدون هذه العناصر- ونحن لا نحتاج منها سوى القليل”.
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.