إعلان ثابت

خدمة مميزة يقدمها الاتحاد لأعضائه:
صمم موقعك باحترافية وابدأ رحلتك الرقمية اليوم

اضغط على الصورة للتفاصيل
إعلان

عبد الحسين شعبان  مثقّف موسوعي بذاكرة إلكترونية لاتخطئ

الشاعر العراقي محمد رشيد يكتب:

0

مؤسس وامين عام نادي المثقفين العربي نتمي المفكّر العربي الكبير د. عبد الحسين شعبان إلى جيل الستينيات، وهو جيل شهد تحدّيات كبرى وانكسارات غير قليلة وتمرّدات مركّبة على المستويين الشخصي والعام، لكنه جيل عُرف بالتجديد والإبداع والحداثة والمغامرة، متجاوزًا ما هو سائد وتقليدي ومحافظ، إلى ما هو غير مألوف، خصوصًا باختيار طريق التنوير والتغيير وتجاوز الواقع بكلّ قيوده وعقباته وعراقيله الموضوعيّة والذاتيّة.

د. شعبان من ذلك الجيل الحيوي الذي أثر على نفسه التجريب والأسئلة، متخلّيًا عن الإيمانية والتبشير صوب العقلانية والنقد، وقام بذلك بحريّة وقناعة بالتدرّج والتراكم، ومنذ الثمانينيات، أخذت كتاباته تعبّر عن ذلك بوضوح، حتى أصبح يمثّل مدرسة في طريقة تفكيره وفي تعامله مع القضايا الوطنية والثقافية بحساسية وجمالية متميّزة وفيها الكثير من الفرادة، واليوم صار مؤسسة موسوعية مثمرة، بما أنجزه من أعمال فكرية ومن معالجات لأهم القضايا، مثل الوطن والمواطنة والهويّة والدولة والحقوق الجماعية والفردية والدين والسياسة والماركسية والتجديد والثقافة والحريّة والتنمية والانبعاث الحضاري، وقد عمل بهدوء وثقة دون أن يحدث ضجيجًا، بل كان يقدّم جهده بتواضع دون أي ادّعاء أو حبّ للظهور، ولعلّ هذه المؤسسة خرجّت (الفرد) على نحو مباشر في الداخل والخارج ومن العراقيين والعرب آلاف من النشطاء المؤمنين بحقوق الإنسان والتنمية باعتبارهما الطريق الأصلح لبناء المجتمعات.

اللقاء الأول

في العام ٢٠٠٤ أشرقت شمس علاقتنا، وكنت قد التقيته في عمّان (الأردن) ضمن نشاط يختص بثقافة وحقوق الطفل في الوطن العربي، حيث تشرّفت بمعرفته بعد أن كنّا نسمع باسمه ونتوق إلى لقائه، واستمر بريق علاقتنا في التوهّج من خلال مؤسسة دار القصة العراقية، والشيء الذي أبهرني بشخصيته هو أنني كلما تقرّبت إلى عوالمه الداخلية ازددت إعجابًا به لتواضعه وتقديره للآخ،ر واحترامه له مهما كبُر أو صغُر.

و كلّما مرّت فترة على علاقتنا، كان شعبان يأخُذ بيدي ويقدّمني إلى العديد من الجهات والمؤسسات وكبار المثقفين، وأتذكّر يوم اقترحني لأكون عضوًا في اللجنة التحضيرية لفاعليات الطفل العربي في القاهرة، حيث كان عضوًا في مجلس أمناء المجلس العربي للطفولة، الذي يترأسه الأمير طلال بن عبد العزيز.

وقبل ذلك حين دعاني للانضمام إلى مجلس أمناء الشبكة العراقية لثقافة حقوق الإنسان، التي أسّسها وكان أول رئيس لها، لكنه قرّر منذ المؤتمر الأول أنه لن يقبل ترشّحه سوى لدورة واحدة، وبالفعل قدّم استقالته قبل شهر من انعقاد المؤتمر الثاني، وهو نهج اتّبعه في تداول المسؤوليات، فحين اختير رئيسًا لأكاديمية السلام التي تأسست في برشلونة (إسبانيا)، تعهد بأن تكون ولايته لدورة واحدة، وقبل انتهاء الدورة قدّم استقالته وطلب اختيار بديل عنه.

وفي السنوات الأخيرة قدّم استقالته من عدد من المنظمات التي عمل فيها أو أسسها أو ترأسها، مثل مركز دراسات الوحدة العربية واتحاد الحقوقيين العرب والرابطة العربية للقانون الدولي والمنظمة العربية لمكافحة الفساد، وقرّر البقاء فقط كأستاذ في جامعة اللّاعنف بتخلّيه عن جميع هذه المواقع وغيرها.

وقد كتب عنه الأستاذ عبد الحميد الصائح حين تقدّم باستقالته من رئاسة المنظمة العربية لحقوق الإنسان وأصرّ عليها أمام جمهور الأعضاء في المؤتمر المنعقد في لندن، “يقدّم شعبان درسًا خارج النظام العربي الرسمي”، حيث يتمسّك القادة والزعماء بمواقفهم حتى الممات أو حين يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

مكانته في قلوب الأصدقاء

يحظى د. شعبان بمكانة خاصة واحترام كبير في قلوب أصدقائه، بل إنه يسكن فيها، وقد كنت أتلمّس ذلك من خلال علاقاته الواسعة والمتنوّعة، حيث يتعامل مع الجميع بحب كبير، ولاسيّما مع المبدعين من الشخصيات الأدبية والاجتماعية والسياسية، ولذلك يحظى باحترامها الكبير، بل هو محط إعجابها وتقديرها، وهي تبادله الاحترام بالاحترام. وتراه يستمع جيدًا لمعاناة الآخرين وشكواهم وينصت إليهم بعمق عاشق لموسيقى الكلام، ولديه ميزة واضحة تتجلّى في فن احتواء الآخرين، ولكنه يبقى مدافعًا عن مبادئه وقيمه التي تربى عليها منذ نعومة أظفاره، حيث يميل كمثقف إلى الحوار والتفاهم، بعيدًا عن الكراهية والضغائن، متمسّكًا بالثقافة والسلام كأدوات للتغيير وبقيم التسامح واللاعنف.

خريطته الثقافية

تلقى الخريطة الثقافية والفكرية للدكتور شعبان اهتمامًا كبيرًا، وتحتلّ مساحة واسعة من انشغالات المثقّفين العراقيين والعرب، وما يزال الرأي العام يُتابع باهتمام كلّ ما يصدر عنه، إضافة إلى مقابلاته التلفزيونية، كما أن الصحف والمجلّات تتسابق للقائه، بل إن بعض لقاءاته كانت محط نقاش ودراسة وتحليل في كليّات الإعلام والعلوم السياسية، إضافة إلى جامعة اللّاعنف في بيروت، ولذلك كانت أغلب الفضائيات تسعى لاستضافته لأنه موسوعة متكاملة من الثقافة، ويحتفظ بذاكرة إلكترونية لاتخطئ أبدًا، فهو متابع ومواظب ودقيق ومثابر جدًا على تتبّع المعلومات المهمة من مصادرها الخاصة، ويضيف لها تحليله الشخصي لتبرز ممهورة باسمه، وهو ما أسمّيه “دمغة شعبانية”، لعلّ شعبان يضيف لمساته الدافئة في كل موقع نزوره، وكان الجميع يطلب التقاط الصور معه حتى شعرت أنه ( نجم ثقافي ).

سياحة ثقافية

لقد تعلّمت من د. شعبان الكثير، ليس في مجال الثقافة والحقوق فحسب، بل في السلوك الاجتماعي، فقد رافقته في عدد من العواصم والمدن، وتجولنا في مكتبات وجوامع وكنائس قديمة، كذلك الأمر عند زيارته مندي الصابئة المندائيين في العمارة، حيث كان محط فخر وإعجاب الجميع، لأنه عارف بكل ما يحيط بالديانة المندائية، ووقف إلى جانب الوجود المندائي، ودافع عن الصابئة الذين تعرّضوا إلى التمييز والاضطهاد بسبب دينهم ومعتقداتهم، وكان قسمًا كبيرًا منهم قد اضطرّ إلى الهجرة في فترة الحصار الدولي وما بعد الاحتلال الأمريكي، مثلما دافع عن الإزيديين في محنتهم أيام هيمنة داعش، وكتب الكثير عنهم، ووقف باستمرار إلى جانب المسيحيين، ويُعتبر كتابه “أغصان الكرمة – المسيحيون العرب”، مرجعًا مهمًا للدارسين والباحثين، لاسيّما فيما يتعلّق بالهويّة والمواطنة، علمًا بأنه يستعيض عن مصطلح “الأقليات” بمفهوم المجموعات الثقافية في المجتمعات المتعدّدة الثقافات.

في تونس، حيث تدرّبت في المعهد العربي لحقوق الانسان – دورة عنبتاوي، كان شعبان أستاذًا ماهرًا في فن إلقاء المحاضرات على المتدربين، مما انعش ذاكرتهم وعقولهم بتجارب من محطات مضيئة في حقوق الإنسان، وفي بيروت احتفينا بمنجزه، وتم تكريمه بجائزة العنقاء الذهبية الدولية للثقافة وحقوق الإنسان بحضور شخصيات أدبية وحقوقية وفنية من أغلب الدول العربية، وكان التكريم في بيته وسط أهله ومحبيه كونه أضاف أغصانًا لشجرة الابداع العالمية، وفي السليمانية كان نجمًا ساطعًا في سماء الثقافة الكوردية ضمن فعاليات مؤتمر القمة الثقافي العربي في الثقافة التنويرية، مثلما كان مثقفوا إربيل يعتبرونه رمزًا عربيًا كبيرًا يقف مع قضيّتهم، وكذلك في القاهرة، كان يحتفي به مثقفوها، فهي تعرفه حقّ المعرفة، كما يحتفي به مثقّفوا البلدان العربية أينما كان.

وفي مدينة العمارة كان بارزًا في إدارة دفة الحوارات ضمن محور تنمية البيئة ومكافحة التصحّر، وفي بغداد تسابق المثقفون على الإدلاء بشهاداتهم والكتابة عن سلسلة منجزاته حينما تم تكريمه من قبل اتحاد الحقوقيين العراقيين، وفي كلية التربية الأساسية – جامعة ميسان، ألقى محاضرة عن فقه التسامح، أشاد بها جميع الأساتذة الحضور والطلبة وعمداء الكليات.

وعلى نفس وتيرة الاحتفاء به تمت استضافته في محافظة الأنبار وجامعتها، وكذلك جامعة بابل وجامعة الكوفة ومدينة هيت والصويرة والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة وإربيل وغيرها من المدن التي تسابقت لاستضافته، وفي أكثر من مرة كنّا نؤجل نشاطًا هنا وفعالية هناك ليستطيع حضورها، وله دور كبير في تأسيس نادي المثقفين العرب أو برلمان الطفل العراقي، لأنه مؤمن تمامًا بما أنجزناه من نشاطات تحدت واقعنا المرير.

وكان اللقاء الأخير الذي أداره وأشرف عليه في بغداد لنادي المثقفين العرب، الذي اختار رئيسةً له من تونس (المحامية لبنى بن عبد الله) وتشرّفت باختياري أمينًا عامًا، وبحضور نخبة عربية وعراقية متميّزة من المثقفين.

اصداراته

لديه اصدارات من الكتب تجاوزت اﻟ (80) مؤلفًا تناولت القانون والسياسة والثقافة والأدب والفلسفة والدين، إضافة إلى الشعر وحقوق الإنسان وفقه التسامح والهويّة الوطنية، وأن الدراسات التي كتبت ونشرت عن منجزه كثيرة جدًا تستحق أن تجمع في كتب لتزين المكتبة العربية بكتب نادرة تنبض بالحياة لسيرة شخص عاشق لثقافته الحرّة التي ولدت خارج أسوار الطائفيّة والتعصّب والتحليق في فضاءات الحريّة والسلام والمحبة. وبالفعل صدرت حتى اليوم كتبًا عنه وكُتبت العديد من الدراسات والأبحاث، ونلفت النظر إلى أهميّة توجيه طلبة الدكتوراة لكتابة أطروحات عن فكره ودوره النضالي والثقافي التنويري وعن مدرسته الفكرية.

شخصيته وسلوكه

أجمل ما في د. شعبان هو سعة صدره وتقبّله للنقد، بل إنه هو من يقوم بالنقد الذاتي، ودائمًا ما يقول أعتزّ حتى بأخطائي، لأنها صادرة عنّي، وهي اجتهادات لم تزكّها الحياة، أو أن المعطيات كانت محدودة وغير دقيقة، وحين توفّر معطيات ومعلومات جديدة، لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار، والأمر الذي يتطلّب إعادة النظر بأفكارنا وآرائنا، وينبغي أن نقوم بذلك بكلّ رحابة صدر لنقدّم رؤية جديدة تتجاوز ما كان سائدًا بالسابق. ويقول شعبان أن وظيفة المثقف هي النقد، حتى ولو كان من ينقده غير موضوعي، فإنه لا ينفعل أو يردّ عليه بمثله، بل يتجاوز ذلك باعتباره رأيًا أصاب أم أخطأ، وتلك سمات المفكّر الكبير.

ويسعى شعبان بما اتّسم به من روحية إيجابية إلى تنمية روح التسامح والصداقة والرأي الحر في الوسط الثقافي، وإدارة حوارات تمثّل سلوكًا حضاريًا راقيًا يسهم في تنمية الإنسان وبناء المجتمع، فضلًا عن الحس الإنساني الكبير جدًا الذي يملكه، وأستطيع أن أقول أنه حسًا بحجم الوطن.

أخيرًا تحيّة للدكتورة الشاعرة سعاد الصباح على التفاتتها في تكريم الرمز العراقي الكبير الذي نفتخر به، والشخصية العربية المنفتحة على محيطها والمؤثرة فيه، ولعلّ في تكريمه تكريمًا للثقافة ولقيم التسامح والتنوير والسلام واللّاعنف، وتكريمه هو امتداد لتكريم الشاعر الكبير نزار قباني والكاتب والمترجم ثروت عكاشة والصحافي والديبلوماسي الكبير غسان تويني والمثقف عبد العزيز حسين والمفكر عبد الكريم غلّاب والمفكر الحبيب الجنحاني والروائي ابراهيم الكوني، حيث تحتل هذه الكوكبة مكانةً بارزةً في الثقافة العربية المعاصرة.


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد
دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً