
في عام 1978، وفي قلب أطهر بقاع الأرض، كانت مكة تشهد واحدة من أعظم لحظات تحولها. الحرم المكي، بقبابه البيضاء ومآذنه التي تعانق السماء، كان على وشك أن يتسع لآلاف مؤلفة من المصلين. التوسعة الكبرى كانت تمضي بوتيرة متسارعة، والعمال يكدحون كأنهم يرممون مجدًا خالدًا.
في أحد الأيام، بينما كانت آلات الحفر تعمل بجوار الكعبة المشرفة، ارتجّت الأرض فجأة. من بين الشقوق انبثقت مياه، صافية باردة، تنبع من باطن الأرض كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ قرون.
كان المهندس المسؤول عن المشروع آنذاك هو يحيى كوشك، رجل عرف الحرم طفلاً، وشبّ على احترام قدسيته. وحين رأى المياه تتفجر من جوار الكعبة، شعر بقشعريرة تسري في جسده. لم يكن الأمر مجرد تسرب مياه… بل كانت المياه تتدفق من اتجاه بئر زمزم.
رمق كوشك موقع الحفر بقلق، ثم أمر بوقف الآلات فورًا. داخله، كان صوت يصرخ: “هل عبثنا بمصدر زمزم؟ هل شوهنا سرًا محفوظًا منذ آلاف السنين؟”
كان يدرك تمامًا ما يعنيه أن ترتبط اسمه بكارثة كهذه. لن يكون مجرد مهندس مخطئ، بل سيكون “الرجل الذي أفسد زمزم”.
لكن كوشك، الذي كان يخشى التاريخ، اختار أن يواجهه وجهًا لوجه.
رحلة إلى العمق المقدس
كان السؤال الجوهري هو: من أين تتغذى بئر زمزم؟ لم يكن أحد يعرف على وجه اليقين، فكل ما نُقل عبر القرون لم يجاوز حدود الروايات والتفسيرات الغيبية. أما الآن، فقد حان وقت العلم أن ينزل إلى حيث لم يسبق أن نزل بشر.
فكّر كوشك في إرسال غواصين إلى داخل البئر. لم يكن القرار سهلاً. هذا ليس بحرًا مفتوحًا أو نهرًا هادئًا، بل فتحة ضيقة في صخرة، تغوص 19 مترًا تحت الأرض، لا تتسع إلا لرجل بالكاد.
تم استدعاء غواصَين محترفَين من ميناء جدة. أحدهما مصري شاب، محمد يونس، يتمتع بخبرة وشجاعة نادرتين، والآخر باكستاني ذو بأس وصمت.
حين وقف الغواصان أمام فتحة البئر، لم تكن المغامرة واضحة الملامح. كان الأمر أشبه بمواجهة مع المجهول، ومع الموروث، ومع القداسة.
الغوص في الغيب
نزل الغواصان تباعًا، مزودَين ببوصلة لتحديد جهة تدفق المياه. لكن ما إن دخلا البئر حتى بدأت البوصلة تدور بشكل غريب… عقاربها كانت تتمايل بلا هدف، كأنها فقدت اتجاهها تمامًا.
صعد الغواصان في ذهول. تم استبدال البوصلة، ونزلا مجددًا. والمفاجأة تكررت: البوصلة لا تشير لأي اتجاه داخل زمزم.
هنا، أيقن الفريق أن في قاع زمزم سرًا معدنيًا يُشوّش الأجهزة. ومع كل غوصة، كانت الحقيقة تزداد غرابة.
مقبرة الأسرار
في قاع البئر، وبين الظلمة والرطوبة، كانت الكنوز والمخلفات تطفو معًا. لم تكن المياه وحدها تسكن هذه الأعماق، بل كان هناك ما يشبه مقبرة زمنية لمئات الأعوام.
أوانٍ فخارية مكسورة، عملات عثمانية وأخرى بريطانية، مواسير صدئة، عقود من الحبات الملونة، أختام تحمل أسماء أشخاص.
لكن الأغرب… كانت قطع من الحجارة منقوش عليها أسماء بشر، رُميت في البئر تبركًا أو طلبًا لرحمة، أو ربما نذرًا بائسًا علّ القدر يرق لهم.
الاختناق والعودة
الهواء كان ينفد بسرعة. لم تكن أسطوانات الأوكسجين تكفي لأكثر من نصف ساعة. عشر دقائق للنزول، مثلها للصعود، والباقي للعمل. الوقت كالسيف، والخطر داهم.
قرّر كوشك حلًّا هندسيًا: استخدام ماكينة لضخ الهواء عبر خراطيم طويلة. الفكرة نجحت نظريًا، لكنها كادت تودي بحياة الغواصين.
تسرّب الزيت من الماكينة إلى الهواء، واختلط بالأوكسجين. تسمم الغواصان تحت الماء. تم سحبهما سريعًا، وإعطاؤهما الحليب لتقليل التسمم. وبعد بضع ساعات… عادا. نعم، عادا بإصرار لا يملكه إلا من رأى بعينه ظل المعجزة.
الكشف الأعظم
مع إزالة كل جردل من المخلفات، كانت أعماق زمزم تتكشف شيئًا فشيئًا. العمق الحقيقي للبئر لم يكن 19 مترًا كما اعتُقد، بل 30 مترًا. أحد عشر مترًا كاملة كانت دفينة المخلفات.
قال محمد يونس لاحقًا:
“حين وصلت للقاع، نظرت للأعلى فلم أرَ شيئًا. كان كأنني في نفق منسي، بلا بداية ولا نهاية.”
حين تم سحب المياه، نزلت كاميرات التصوير لأول مرة. ما صورته عدساتها لم يكن مجرد قاع، بل حياة سرية تحت الأرض: شقوق صخرية دقيقة تنبع منها المياه، متصلة بتربة مكة.
كلما أمطرت السماء، سالت تلك الشقوق، وتسرب الماء نحو بئر لا يعرف الجفاف.
الابتسامة التي رآها التاريخ
حين خرج محمد يونس من البئر، التقطت له الكاميرا صورة وهو يبتسم. لم تكن ابتسامة نصر، بل ابتسامة رجل تشرّف بأن يرى ما لم يره إنسان منذ خلق الله الأرض.
ابتسامة من دخل في قلب المعجزة وعاد، لا ليحكي فقط، بل ليحفظ سرًّا عمره آلاف السنين.
زمزم… سر لا تقدر عليه آلات الحفر
ما حدث في تلك الأيام لم يكن مجرد إنجاز تقني، بل لحظة نادرة اختلط فيها الإيمان بالعلم، والتاريخ بالحدث، والإنسان بالسر المقدس.
زمزم ما زالت تسقي القلوب، لا لأنها بئر… بل لأنها شاهد على أن المعجزات قد تسكن تحت أقدامنا، نمرّ فوقها كل يوم، ولا نراها… إلا إذا نزلنا بقلوبنا قبل أجسادنا.
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.