اللاجئون في مصر : بين الاحتضان الإنساني والتحديات السيادية

بقلم ط: ناصر السلاموني

تُعد مصر من الدول التي فتحت أبوابها للاجئين من مختلف الدول العربية والأفريقية، بدافع إنساني متأصل في ثقافتها وتاريخها، واستنادًا إلى قيمها الحضارية والدينية التي تدعو لنصرة المظلومين ومساعدة المنكوبين. ومع اتساع رقعة الصراعات في المنطقة، أصبحت مصر موطنًا لملايين اللاجئين من جنسيات متعددة، ما بين لاجئ حقيقي فرّ من ويلات الحرب، وآخر لجأ لأغراض اقتصادية، وثالث قد يشكّل تهديدًا أمنيًا خفيًا.

تستضيف مصر اليوم أكثر من عشرة ملايين لاجئ ومهاجر، بينهم قرابة مليون شخص مسجلين رسميًا لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يمثلون 61 جنسية مختلفة. ومنذ اندلاع الصراع في السودان في أبريل 2023، دخل مصر أكثر من مليون ونصف سوداني، ويُقدَّر أنهم يمثلون اليوم أكثر من 70% من مجمل اللاجئين في مصر، وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ البلاد. ومع تصاعد العدوان على غزة، تدفقت موجة جديدة من اللاجئين الفلسطينيين تجاوزت المئة ألف، مما شكّل عبئًا إضافيًا وضغطًا حادًا على قطاعات الدولة، لا سيما الصحة، والتعليم، والإسكان، والطاقة.

إلى جانب السودانيين والفلسطينيين، يُقدّر عدد السوريين المقيمين في مصر بين مليون إلى مليون ونصف، وكثير منهم يملكون إقامات قانونية أو شبه رسمية، ويمارسون أنشطة تجارية أو يملكون أصولًا عقارية. كما تحتضن مصر لاجئين من جنوب السودان، اليمن، ليبيا، إريتريا، وإثيوبيا، ما يجعلها من أكثر دول المنطقة استقبالًا للتنوع البشري النازح.

بخلاف دول كثيرة أقامت مخيمات مغلقة للاجئين وعزلتهم عن مجتمعاتها، اختارت مصر أن تدمجهم في المجتمع، وسمحت لهم بحرية التنقل والعمل والتعليم. وهو موقف نال إشادة من المفوضية الدولية، لكنه شكّل في المقابل ضغطًا متزايدًا على البنية التحتية، والخدمات العامة، والأمن المجتمعي. ورغم أن التعميم مرفوض، إلا أن بعض السلوكيات السلبية المتكررة من فئات بعينها تفرض على الدولة واجب التقييم والمراجعة الدقيقة.

التهديد الأخطر يكمن في الجانب الأمني. فمع الفتح الإنساني الواجب، تبقى احتمالية تسلل عناصر غير بريئة قائمة، قد تُستغل لأغراض استخباراتية أو تخريبية. وتكفي الإشارة إلى حالات سابقة مثل استغلال بعض العمالة الهندية في الخليج من قبل الموساد ضد إيران، لتبرير اليقظة. وقد أثارت سلوكيات جماعية في بعض المحافظات، مثل أسوان، قلقًا متناميًا من تصرفات تمسّ الأمن المجتمعي وتُحدث احتكاكات يومية تستوجب تدخلًا منضبطًا من الأجهزة المعنية، دون المساس بكرامة اللاجئ الشريف.

وتبرز تساؤلات مشروعة لدى قطاعات من الرأي العام: لماذا لا يعود السوريون إلى بلادهم بعد استقرار أجزاء واسعة منها؟ ولماذا يتمسك بعض اللاجئين – لا سيما السودانيين – بالإقامة في مصر وشراء العقارات وتأجير الشقق بأعداد ضخمة رغم وجود دول أخرى أقرب وأقل تكلفة؟ وهل تحوّل بعضهم من لاجئ إنساني إلى لاجئ اقتصادي يسعى للاستقرار الدائم دون نية للعودة؟

اقتصاديًا، أحدث وجود اللاجئين آثارًا مزدوجة. السوريون أسهموا في إنعاش السوق من خلال مطاعم، ومشاريع صغيرة ناجحة، ومحلات تجارية. بينما اتجه البعض الآخر، مثل اليمنيين وبعض اللاجئين الأفارقة، إلى الاستهلاك المفرط دون مساهمة إنتاجية حقيقية، مما فاقم الضغط على الاقتصاد غير الرسمي، وزاد التنافس مع المواطن محدود الدخل. كما أدى تزايد الطلب على الوحدات السكنية في مناطق مثل أكتوبر والقاهرة الجديدة إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار الإيجارات، وأضعف من فرص الشباب المصري في الحصول على سكن مناسب.

كما تأثرت أسعار السلع الأساسية بزيادة عدد المستهلكين، لا سيما في قطاع الأغذية، إلى جانب ارتفاع معدلات استهلاك الكهرباء والمياه والصرف الصحي دون آليات عادلة لتوزيع العبء أو تعويض الدولة عن تلك الضغوط. أما المدارس، فقد استقبلت أعدادًا ضخمة من أبناء اللاجئين، خاصة السوريين، مما رفع كثافة الفصول وأثر على جودة التعليم، في حين أنشأت بعض الجاليات الأخرى، مثل الليبيين والسودانيين، مدارس خاصة بهم، بعضها لا يخضع للرقابة التربوية الكافية.

وعلى الصعيد الاجتماعي، ساهم التفاعل الكبير بين المصريين واللاجئين في خلق أنماط جديدة من العلاقات، لا سيما في الزواج والعادات الاجتماعية، وهو ما أثار موجات جدل بين من يرى في ذلك تنوعًا ثقافيًا إيجابيًا، ومن يخشى من تصادم القيم وخلخلة النسيج الثقافي التقليدي، لا سيما في البيئات الريفية والمحافظة. كما أضاف اللاجئون نكهة جديدة للحياة اليومية من خلال المطاعم الشعبية، والحرف، والخدمات المتنوعة.

ورغم أن القانون المصري يمنع ممارسة اللاجئين لأي نشاط سياسي، تبقى اليقظة ضرورية في ظل النشاط الاقتصادي الرمادي الذي قد يُستغل لأهداف غير معلنة. وتبذل الأجهزة الأمنية والرقابية جهودًا لمتابعة التحويلات المالية والأنشطة التجارية، وفق قوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

أما على مستوى الدعم الدولي، فإن مصر تتلقى مساعدات محدودة من المفوضية السامية والاتحاد الأوروبي وبعض الجهات المانحة، لكنها لا تغطي سوى جزء ضئيل من التكاليف الفعلية التي تتحملها الدولة المصرية من مواردها الذاتية.

وبينما تبذل الدولة جهدًا لإحكام الرقابة والتقنين، فإن المجتمع مطالب بعدم الانزلاق إلى خطاب الكراهية أو تحميل اللاجئين جماعيًا مسؤولية الأزمات، فالكراهية تهدد التماسك، والتساهل يفتح ثغرات، والمطلوب هو خطاب وطني مسؤول، يوازن بين الحزم الإنساني والسيادة الوطنية.

في النهاية، اللاجئون في مصر ليسوا كتلة واحدة. منهم من يستحق الدعم، ومنهم من يستوجب المراقبة، ومنهم من قد يُشكّل خطرًا حقيقيًا. على الدولة أن تدير هذا الملف الدقيق بحكمة وعدالة، فتحمي أمنها واستقرارها دون الإخلال بكرامة الإنسان، وتمنع تحوّل اللجوء إلى إقامة دائمة بلا ضوابط أو مراجعة. فمصر كما كانت ملاذًا، تبقى قادرة على أن تحتضن المحتاج وتحاسب المسيء، وتحفظ أمنها القومي دون المساس بوجهها الإنساني.


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

🔔
error: المحتوى محمي !!
العربيةالعربيةFrançaisFrançais