إعلان هام

الشريف خالد الأبلج يدعو إلى تجديد العلاقة مع التاريخ بمنهج علمي ووعي حضاري راسخ ومواجهة المتطفلين

في خضم التحولات العميقة التي تعصف بالمشهدين الفكري والثقافي في العالم العربي والإسلامي، تلوح في الأفق ظاهرة آخذة في الاتساع، تستدعي كثيرًا من التأمل والحذر. إنها فوضى “الدخلاء على التاريخ”، حيث يُقدم البعض على اقتحام ميدان الكتابة التاريخية دون امتلاك الحد الأدنى من أدواتها العلمية، أو فهم منهجياتها الدقيقة، متجاهلين القواعد الأخلاقية والمعايير البحثية التي تحفظ للتاريخ جلاله، وللحقيقة هيبتها. وبهذا، تتحول السرديات إلى منابر للتأويل المغرض أو التسطيح المخل، لا لعرض الوقائع كما كانت، بل كما يراد لها أن تُروى.

أوضح الشريف خالد الأبلج، الخبير والباحث فى التراث العربي والإسلامي، وعضو الرابطة العلمية للأنساب الهاشمية، أن هذه الفوضى لا يمكن التعامل معها بوصفها عارضًا ثقافيًا مؤقتًا، بل هي تهديد حقيقي لذاكرة الأمة، وتحدٍّ مباشر لهويتها العميقة. إن من أخطر ما تواجهه الأمة اليوم هو أن يُكتب تاريخها من خارج سياقها، أو أن يُعاد تشكيل وعيها اعتمادًا على روايات مهزوزة لا تقوم على التحقيق والتمحيص، وإنما على الانتقاء والتأويل، وفي كثير من الأحيان على التشويه المقصود.

وأضاف الشريف الأبلج أن المتطفلين على التاريخ ليسوا مجرد هواة يجهلون العلم، بل في بعض الأحيان هم أصوات تتعمد اجتزاء الوقائع أو تحميل النصوص ما لا تحتمل، أو نقل الروايات المجتزأة دون سند علمي أو وعي بالبيئة الزمنية التي قيلت فيها. إنهم يكتبون بلا مسؤولية، ويُلقون بالكلمات كما تُلقى الحجارة في الماء الراكد، فيثيرون الغبار، ويطمسون المعالم، ويدّعون “التجديد” بينما هم في الحقيقة يعبثون بثوابت الأمة ويشككون في رموزها وأمجادها.

وأشار إلى أن كثيرًا من هؤلاء يستخدمون لغة ظاهرها البحث والحياد، لكنها في جوهرها مليئة بالتحامل والانحياز، وتُبنى على فكرة مسبقة تريد أن تفرض رؤية تاريخية مغلوطة على الأجيال الجديدة. ومن المؤلم أن تجد هذه الروايات طريقها إلى عقول الشباب، لا من خلال الكتب فحسب، بل من خلال مقاطع منتشرة عبر المنصات الرقمية، تُصاغ بعناية، ويُراد بها قلب الموازين وقلب الحقائق.

وذكر الشريف  أن من أهم ما يجب الوقوف عنده في هذه الفوضى هو استهداف الرموز والمفاهيم المؤسسة للوعي الجمعي للأمة، حيث يتم تقزيم القامات العظيمة التي بنت مجد هذه الأمة، أو تحميلها ما لا تحتمل من الأوهام والتأويلات المتعسفة، وكأن التاريخ يجب أن يُعاد تشكيله على مقاسات أيديولوجيات طارئة أو تيارات وافدة. وبيّن أن ما يُكتب اليوم في بعض الأوساط لا علاقة له بالتاريخ بوصفه علمًا ومنهجًا، بل هو جزء من صراع سردي يسعى إلى هدم الجذور، وفصل الأمة عن عمقها الحضاري. وهذا هو مكمن الخطورة، إذ لا يمكن لأي أمة أن تستشرف مستقبلها إن كانت تقف على أساس مزور، أو تتغذى على روايات مشوشة ومُفخّخة بالأجندات والظنون.

وأكد الشريف خالد الأبلج أن المملكة العربية السعودية، بما تمثله من عمق روحي وتاريخي للأمة الإسلامية، ليست بمنأى عن هذا الاستهداف، بل إنها – بحكم مكانتها وريادتها – كانت ولا تزال في قلب هذا الصراع السردي. ولكنها، في الوقت ذاته، تمثل الدرع المعرفي والثقافي الأكثر صلابة، إذ تتعامل مع التاريخ لا بوصفه مادة خامًا لتوظيف سياسي أو إعلامي، بل باعتباره ميراثًا حضاريًا تتكئ عليه الأمة في نهوضها.

وقال الشريف الأبلج إن السعودية تُعد اليوم ركيزة أساسية في بناء خطاب تاريخي عربي وإسلامي رصين، فهي لم تكتفِ بحفظ التراث، بل أعادت بعثه من خلال مؤسسات علمية وبحثية ومشاريع رائدة في خدمة التاريخ الإسلامي، وهي تقدم ذلك للناس ليس بوصفه ترفًا فكريًا، بل ضرورة وطنية وقومية ودينية.

وأشار الشريف إلى أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله، يُعد من القادة القلائل في العالم الإسلامي الذين يمتلكون معرفة تاريخية دقيقة، واهتمامًا حقيقيًا بالتوثيق والتحقيق، وهذه الخصيصة ليست أمرًا شخصيًا، بل تنعكس في السياسات الثقافية للدولة، وفي دعمها للمشاريع البحثية والمعرفية، وفي عنايتها بالمؤسسات التاريخية والمخطوطات والمكتبات العريقة.

كما أضاف أن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، أيّده الله، يُجسد برؤيته الطموحة انبعاثًا معاصرًا للوعي التاريخي، إذ يؤمن بأن بناء المستقبل لا يتم إلا على أرض صلبة من الفهم الواعي للماضي. ومشروعه الوطني في إعادة قراءة الهوية السعودية ضمن سياقها العربي والإسلامي ليس مجرد مشروع تنموي، بل هو في جوهره تجديد ثقافي وحضاري بالغ العمق.

وذكر الشريف خالد الأبلج أن مواجهة التزوير التاريخي يجب أن تكون مسؤولية جماعية، تبدأ من المؤرخين المتخصصين، لكنها لا تتوقف عندهم. إن المنظومة التعليمية، والإعلامية، والثقافية، مطالبة اليوم بأن تؤدي دورها في حماية الوعي، وترسيخ المفاهيم الصحيحة، وتحصين الأجيال من محاولات التزييف والانفصال عن الجذور. وأوضح أن التاريخ لا يُكتب في الفراغ، ولا يعيش في الماضي فقط، بل هو طاقة روحية تختزنها الأمم وتنهض بها، أو تُهزم حين تُفرّط بها. ولهذا فإن بناء رؤية تاريخية نزيهة، شاملة، وراسخة، هو في ذاته فعل مقاومة حضارية ضد الانسلاخ والانهيار.

وختم الشريف خالد الأبلج كلماته بالتنبيه إلى أن المعركة اليوم لم تعد معركة جيوش، بل معركة سرديات ومعارف، وأن من يُمسك بزمام رواية تاريخه هو من يُمسك بمستقبله.

وقال: “علينا أن نكون أمناء على ذاكرتنا الجماعية، وأن نواجه التزوير لا بالصراخ والغضب، بل بالعلم، وبالمنهج، وبالصدق. فالتاريخ ليس ساحة للانفعال، بل ميدان للعقل والضمير.”


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

هانى خاطر

الدكتور هاني خاطر حاصل على درجة الدكتوراه في السياحة والفندقة، بالإضافة إلى بكالوريوس في الصحافة والإعلام. يشغل حالياً منصب رئيس الاتحاد الدولي للصحافة العربية وحقوق الإنسان في كندا، كما يتولى رئاسة تحرير موقع الاتحاد الدولي للصحافة العربية وعدد من المنصات الإعلامية الأخرى. يمتلك الدكتور خاطر خبرة واسعة في مجال الصحافة والإعلام، ويُعرف بكونه صحفياً ومؤلفاً متخصصاً في تغطية قضايا الفساد وحقوق الإنسان والحريات العامة. يركز في أعماله على إبراز القضايا الجوهرية التي تمس العالم العربي، لا سيما تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية. طوال مسيرته المهنية، قام بنشر العديد من المقالات التي سلطت الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات التي تطال الحريات العامة في عدد من الدول العربية، فضلاً عن تناوله لقضايا الفساد المستشري. ويتميّز أسلوبه الصحفي بالجرأة والشفافية، ساعياً من خلاله إلى رفع الوعي المجتمعي والمساهمة في إحداث تغيير إيجابي. يؤمن الدكتور هاني خاطر بالدور المحوري للصحافة كأداة فعّالة للتغيير، ويرى فيها وسيلة لتعزيز التفكير النقدي ومواجهة الفساد والظلم والانتهاكات، بهدف بناء مجتمعات أكثر عدلاً وإنصافاً.

اترك تعليقاً

⚙️
شاهد القنوات مباشرة
أهم الأخبار

أهم الأخبار

عرض كافة المقالات
error: المحتوى محمي !!
دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً
العربيةالعربيةFrançaisFrançais