الأخبار

مصالح أوروبا مُعضلة جيوسياسية مُعقّدة بين روسيا وأمريكا

مصر : محمد جوهر حامد

شهدت العلاقات الدولية على مر العقود تحولات جوهرية بفعل التغيرات الجيوسياسية والأيديولوجيةـ ويعتبر السؤال حول ما إذا كانت مصالح أوروبا تميل نحو روسيا أم الولايات المتحدة من أكثر القضايا تعقيداً في الساحة السياسية العالمية، فالعلاقة بين أوروبا وروسيا من جهة وأمريكا من جهة أخرى تُمثّل مُعضلة جيوسياسية مُعقّدة تتشابك فيها المصالح التاريخية والاقتصادية والأمنية بطُرق مُتعدّدة ومتغيّرة باستمرار، ولا يُمكن حصرها في إطار بسيط (إما/أو)، بل تتطلّب تحليلاً دقيقاً يأخذ بعين الاعتبار السياقات المُتعدّدة والمتغيّرة باستمرار؛ فبينما ترتبط أوروبا بروابط اقتصادية قوية مع روسيا، وخصوصاً في مجال الطاقة، إلا أنها تُدرك أيضاً أهمية الشراكة مع الولايات المتحدة في مواجهة التحديات الجيوسياسية المُشتركة.

 

وتعود جذور العلاقات الأوروبية مع روسيا إلى قرون طويلة، حيث تبادلت الدول الأوروبية مع روسيا التجارة والثقافة والعلوم، ومع ذلك؛ تأثرت هذه العلاقات سلبًا خلال فترات الحروب والصراعات كما كان الحال خلال الحربين العالميتين والحرب الباردة، ولطالما كانت روسيا مُصدّراً رئيسياً للطاقة لأوروبا، وخصوصاً الغاز الطبيعي، وهذا الاعتماد الاقتصادي خلق تبعية مُعينة لأوروبا على روسيا، مما جعلها حساسة للضغوط السياسية والاقتصادية الروسية، فعلى سبيل المثال استخدمت روسيا في الماضي “سلاح الطاقة” كأداة ضغط سياسي، كما حدث في أزمة الغاز عام 2009 مع أوكرانيا، وهذا يُثير تساؤلات حول مدى استدامة هذا الاعتماد، وما إذا كان يُمثّل تهديداً لأمن الطاقة الأوروبي.

 

إن الأمر لا ينحصر فقط بالطاقة؛ فالتعاون الاقتصادي بين أوروبا وروسيا يتجاوز مجال الطاقة ليشمل قطاعات مُتعدّدة، منها الصناعة والتجارة والزراعة، حيث تُمثّل روسيا سوقاً مُهماً للصادرات الأوروبية، بينما تُوفّر أوروبا استثمارات أجنبية مباشرة في الاقتصاد الروسي، إلا أن حجم هذا التعاون الاقتصادي شهد تراجعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وفرض العقوبات الغربية على روسيا.

 

من ناحية أخرى، ارتبطت أوروبا بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت أمريكا الحليف الرئيسي لأوروبا في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما عزز من الشراكة عبر الأطلسي، حيث ترتبط أوروبا بعلاقات اقتصادية عميقة مع الولايات المتحدة، والتي تعد إلى الآن أكبر الاقتصاديات العالمية، ويساهم التعاون التجاري والاقتصادي مع أمريكا تعزيز النمو الاقتصادي الأوروبي من خلال الاستثمار المتبادل وتبادل السلع والخدمات.

 

ولا يمكن إغفال القضايا الأمنية والسياسية حيث تلعب دوراً مهماً في تحديد مسار العلاقات الأوروبية مع كل من روسيا وأمريكا، فترى العديد من الدول الأوروبية في الولايات المتحدة شريكاً أمنياً رئيسياً، خاصة ضمن إطار الناتو، وتُشكّل الولايات المتحدة حليفاً استراتيجياً لأوروبا، وهي تُمثّل عنصراً أساسياً في منظومة الأمن الجماعي الأوروبية، فيُعتبر الناتو حجر الزاوية في ضمان أمن أوروبا من خلال الردع الجماعي ضد أي تهديد خارجي، بما في ذلك روسيا، بالإضافة إلى ذلك؛ تُساهم الولايات المتحدة في دعم الاستقرار الإقليمي في أوروبا، مما يُساهم في حماية مصالح الدول الأوروبية.

 

وفي المقابل؛ توجد مخاوف لدى بعض الدول الأوروبية من التهديدات الروسية، خاصة التي تمثلت في الأزمات الأوكرانية والجورجية، لكن التعاون الأمني مع روسيا يعد ضرورياً في عدة قضايا، منها مكافحة الإرهاب والتطرف الذي يهدد الأمن الأوروبي، كما تسعى بعض الدول الأوروبية إلى إيجاد تفاهمات مشتركة مع روسيا حول قضايا الشرق الأوسط، بالإضافة إلى التهديدات الأمنية المُشتَرَكة، مثل الإرهاب والانتشار النووي، لكن العلاقة بين أوروبا وروسيا تُعاني من توتر جيوسياسي مُستمر، وهو ما يُعيق التعاون ويُزيد من تعقيد المعضلة، والتاريخ المُعقّد للعلاقات بين روسيا وأوروبا، خصوصاً أحداث الحرب الباردة، لا يزال يُلقي بظلاله على العلاقة الحالية.

 

ومما لاشك فيه أن مواقف أوروبا وأمريكا بشأن روسيا تختلف؛ خصوصاً في سياق التفاعلات المُتعلقة بأوكرانيا وسوريا وليبيا، فبينما تُفضّل أوروبا الحوار والتعاون مع روسيا، تميل الولايات المتحدة إلى إتباع نهج أكثر حزماً تجاه روسيا، وهذا الاختلاف في المواقف يُمثّل تحدياً للتعاون الأوروبي- الأمريكي في السياسة الخارجية، لكن الاتحاد الأوروبي يلعب دوراً محورياً في تشكيل سياسة أوروبا الخارجية نحو روسيا، فالاتحاد يسعى إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع روسيا، وتعزيز أمنه من خلال التعاون مع الولايات المتحدة، هذا التوازن ليس بسيطاً، إذ يتطلّب مقاربة دقيقة تُراعي المصالح المتنوعة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

 

ولا يجب إغفال أن أوروبا تشارك الولايات المتحدة في العديد من القيم الثقافية والاجتماعية، مثل الديمقراطية،وحقوق الإنسان، واقتصاد السوق الحر،هذه القيم المشتركة تعزز من الروابط الثقافية وتساهم في توطيد العلاقات الشعبية والرسمية بين الطرفين، ومن جهة أخرى، تتشارك أوروبا الشرقية مع روسيا في بعض الجوانب الثقافية والتاريخية، ما يخلق فرصًا لتبادل ثقافي وتعليمي مستمر، لكن تبقى هذه الروابط أضعف، لذا من الصعب التنبؤ بمستقبل العلاقات بين أوروبا وروسيا وأمريكا، حيث يتوقف ذلك على عدّة عوامل، منها تطورات الوضع في أوكرانيا، وتأثير العقوبات الغربية على روسيا، وتغيّر التركيبة الجيوسياسية العالمية.

 

وتُشير التطورات الأخيرة إلى ازدياد التوتر بين الغرب وروسيا، ففرض العقوبات الغربية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا كان له تأثير مُلفت على العلاقات الاقتصادية، مما أدى إلى تراجع التعاون بين أوروبا وروسيا، وهذا يُقوّي أهمية الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة في وجه التحديات الروسية، لكن؛ لا يُمكن استبعاد إمكانية لموقف في المستقبل، فقد تُساهم تغيرات في القيادة السياسية أو تطورات جيوسياسية مُفاجئة في تغيير اتجاه العلاقات، والأمر يتطلّب متابعة وثيقة للتطورات في المنطقة.

 

يمكننا القول أنه لا بمكن الإجابة ببساطة على سؤال هل مصالح أوروبا مع روسيا أم أمريكا؟ فالمصالح معقدة ومتداخلة، وتتغيّر باستمرار بحسب السياق الجيوسياسي، والمستقبل سيحدد مدى استمرار هذا التوازن الهش، وتطوّر العلاقات بين أوروبا وروسيا وأمريكا، خاصة في ظل تغير القيادة الأمريكية مؤخرا، ومن الضروري تبني مقاربة دبلوماسية حذرة تُراعي المصالح المُتعدّدة والتحديات المُعقّدة في هذه العلاقة الجيوسياسية الحساسة.


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

هانى خاطر

د. هاني خاطر حاصل على درجة الدكتوراه في السياحة والفندقة، إضافة إلى بكالوريوس في الصحافة والإعلام، يشغل منصب رئيس الاتحاد الدولي للصحافة العربية وحقوق الإنسان بكندا، و رئيس تحرير موقع الاتحاد الدولي للصحافة العربية وعدد من المواقع الأخرى.هاني خاطر صحفيًا ومؤلفًا ذو خبرة عميقة في مجال الصحافة والإعلام، متخصصًا في تغطية قضايا الفساد وحقوق الإنسان والحريات، يركز في عمله على تسليط الضوء على القضايا المحورية التي تؤثر على العالم العربي، ولا سيما تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية.على مدار مسيرته المهنية، نشر العديد من المقالات التي تتناول انتهاكات حقوق الإنسان والحريات العامة في بعض الدول العربية، فضلًا عن القضايا المتعلقة بالفساد الكبير، يتميز أسلوبه الكتابي بالجرأة والشفافية، حيث يسعى من خلاله إلى رفع مستوى الوعي وإحداث تغيير إيجابي في المجتمعات.يؤمن هاني خاطر بدور الصحافة كأداة للتغيير، ويعتبرها وسيلة لتعزيز التفكير النقدي ومحاربة الفساد والظلم والانتهاكات، بهدف بناء مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً