إعلان هام

نماذج من المتكبرين (2): ادعاء الألوهية

بقلم: ناصر السلاموني

بعد أن تناولنا في الجزء الأول من هذه السلسلة تكبر إبليس على آدم عليه السلام بقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾، وتكبر اتباع إبليس من البشر و نهايتهم نواصل الحديث هنا عن صورة أشد خطورة من صور الكبر، وهي ادعاء الألوهية. فقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم نماذج من طغاة البشر الذين تحدّوا ربهم، فكان عاقبتهم الهلاك والخزي في الدنيا والآخرة. ونقتصر هنا على نموذجين هما النمرود وفرعون.

النمرود جادل خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فلما أخبره إبراهيم أن الله يحيي ويميت، أجاب في غرور: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾. فلما تحدّاه إبراهيم قائلاً: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾، بهت النمرود ووصفه الله بأنه الذي كفر، وعجز عن الرد. ولم يكتف النمرود بجداله، بل حرض قومه على نصرة آلهتهم، رغم أنهم في قرارة أنفسهم اعترفوا أن الأصنام لا تستحق العبادة. ومع ذلك انقادوا لهواه، فبنوا له بنياناً عظيماً وجمعوا حطباً يكفي لإحراق قرية كاملة، ثم ألقوا إبراهيم في النار بالمنجنيق. لكن الله الذي يسمع ويرى قال كلمته: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾، فخرج منها آمناً مطمئناً، بينما كان قومه ينتظرون إعلان انتصار باطلهم. وكانت نهاية النمرود على يد أضعف مخلوقات الله، إذ دخلت ذبابة في أنفه حتى بلغت دماغه، فما كان يجد راحته إلا إذا ضُرب رأسه بالخف، وظل كذلك حتى هلك.

أما فرعون فقد بلغ به الكبر أن قال لقومه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾، وقال أيضاً: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾. ولم يكتف بادعاء الربوبية، بل سخر من نبي الله موسى عليه السلام قائلاً: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾. ثم حرض قومه قائلاً: ﴿إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾، فوافقوه على كيده وانساقوا خلفه، متأثرين بثقافة الخضوع للملوك.

وفي يوم الزينة اجتمع أمهر السحرة لمواجهة موسى وأخيه هارون. فسحروا أعين الناس وأرهبوهم، لكن موسى ألقى عصاه فإذا هي تلقف ما صنعوا، فانكشف زيفهم وبان الحق جلياً. عندها خر السحرة ساجدين، وآمنوا برب موسى وهارون، متحدّين بطش فرعون الذي توعدهم بالقتل والتقطيع، فقالوا له في شجاعة المؤمنين: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾. لقد ذاقوا حلاوة الإيمان، فلم يخشوا طغيان فرعون.وكرمهم الشعب بإطلاق أسمائهم على قرى ومدن مازالت قائمة حتى الآن.

أما النهاية، فكانت حين طارد فرعون موسى وقومه حتى شاطئ البحر. عندها قال أصحاب موسى: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾، فأجابهم موسى بكل يقين: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾. فضرب البحر بعصاه بأمر الله، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، فمرّ موسى وبنو إسرائيل على اليابسة. تبعهم فرعون بجنوده، فأطبق الله عليهم الماء، فأغرقهم جميعاً. وحين أدركه الغرق قال: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾، فجاءه الرد الإلهي: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾. وقال سبحانه: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾.

وهكذا انتهى النمرود وفرعون، كما انتهى غيرهما من الجبابرة، ليبقى الدرس خالداً: أن من نازع الله في كبريائه قصمه الله، ومن ادعى الألوهية أهلكه الله. فما أشبه اليوم بالأمس! وكم في عالمنا المعاصر من طغاة يتعالون على خلق الله، ويظنون أنهم قادرون على تدمير البشرية، ويفرضون على الشعوب السمع والطاعة، وهم في الحقيقة أضعف مما يظنون، ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾. نتذكر عندها قول قوم عاد: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾، فجاءهم الرد من رب السماوات والأرض بما لم يحتسبوا، فأبادهم بريح صرصر عاتية.

فلنحذر الكبر والغرور، ولنتعظ بمصائر هؤلاء المتكبرين. قال رسول الله ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ». وما أشد درس الله لنا في هذه الأمثلة: من ادعى الألوهية أو تجاوز حدود الخلق، أهلكه الله وأبقى جسده وآثاره لتكون عبرة لكل الأجيال.

وللحديث بقية في الجزء الثالث من السلسلة، حيث سنستعرض جبروت الشعوب وتحديهم للأنبياء، وقدرة الله على تصحيح مسار التاريخ، ونهايات المتكبرين مهما عظموا ومهما ظنوا القوة في أنفسهم.


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

⚙️
شاهد القنوات مباشرة
أهم الأخبار

أهم الأخبار

عرض كافة المقالات
error: المحتوى محمي !!
دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً
العربيةالعربيةFrançaisFrançais