حين يتكثّف الحُلم على القماش : سناء هيشرى فنانة تمارس اللون كفعل تأمّل وتمرّد

في زمن تتقاطع فيه الأنظمة البصرية، وتزداد فيه العوالم تشابكًا، يصبح الفنّ التشكيلي أكثر من مجرّد أداة تعبير، بل وسيلة مقاومة رمزية، ومساحة بحث عن الذات في عالم مشبع بالصور والسطوح.
هنا، في قلب هذا المشهد، تظهر تجربة الفنانة سناء هيشري، لا كمجرّد مسيرة تشكيلية بل كرحلة متكاملة في جوهرها، تُعيد من خلالها تعريف العلاقة بين الإنسان واللون، بين الأنوثة والخامة، وبين الفكرة والحركة.
سناء ليست رسّامة تقليدية، ولا تنتمي إلى تيارٍ معيّن، بل هي صوت فني منفرد، يُراكم تجاربه بعنادٍ وصبر، باحثة عن صورة لا تُشبه إلا إحساسها، وعن لوحة لا تُختزل في موضوع، بل تمتدّ لتلامس سؤال الوجود ذاته.
لا تستعمل سناء اللون كعنصر تجميلي أو زخرفي، بل كقوّة ، طافحة بالتوتّر والذاكرة. في أعمالها الجديدة، تكشف الفنانة عن مرحلة جديدة من النضج الجمالي، حيث تتشابك التقنيات، وتغيب البنية الكلاسيكية لصالح تيار شعوري بصري أقرب إلى ما يُمكن تسميته بـ”اللغة الجسدية للطلاء”.
لوحتاها ، المقرر عرضهما ضمن مشروعها الفني لسنتي 2025/2026 امتداد لتجربة طويلة من التجريب والانحياز المطلق للمادّة.
في لوحاتها، تظهر ملامح وجهٍ أنثوي يتكوّن ويتفكك في آنٍ، وكأن المرأة التي في الداخل تحاول اختراق سطح العالم. الخطوط المُسدلة، الطلاء المقطّر، التقنيات المختلطة بين الأكريليك والزيت، كلها تُنتج لوحات لا تُلخّص في جملة، بل تُفتح على طبقاتٍ متتالية من التأويل، فتبدو أشبه بانفجار لوني متعدّد الطبقات، يثير السؤال حول الهويّة البصرية المتحوّلة، وحول كيف يمكن للأنوثة أن تُطلّ من داخل العاصفة، كقوة تُعيد تشكيل ذاتها من فوضى اللون.
تقنية الرمي… بين الشغب والسيطرة
تُعرَف سناء بأسلوبها المتميّز في رمي الطلاء لا رسمه، حيث تتعامل مع المادة الفنية بفيزيائية عالية، لا تخلو من العنف التعبيري، وكأنها لا تُمسك الفرشاة بقدر ما تُحرّرها.
تقول:
“لم أفكر في تكلفة الطلاء، رغم ارتفاع سعره، لأنني كنت معنية بأن تكون اللوحة مشبعة حدّ الاكتفاء، وأن تأخذ ما تستحق من كثافة لتولد كما يجب… في الصدق لا التوفير.”
هذه العلاقة مع الخامة ليست تقنية فحسب، بل موقف فلسفي من الفنّ، قائم على كسر الحدود، واستدعاء الحواس إلى الفعل الإبداعي دون قيد أو اعتذار.
إنه نوع من “التمرّد المحسوب”، حيث يتحوّل التلوين إلى ضرب من التعبير الجسدي المباشر، واللوحة إلى ساحة انفعال وارتطام بين الداخل والخارج
15 عامًا من الحضور الفني في الإمارات
لم تكن تجربة سناء محصورة في تونس، بل امتدّت بجناحين إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث استقرّت أعمالها على جدران المعارض والمراسم منذ أكثر من 15 عامًا، في علاقة عميقة وفاعلة مع الوسط الفني الإماراتي.
“الإمارات احتضنتني لا كفنانة فقط، بل كإنسانة تحمل صوتًا وأسلوبًا، وجدت فيها الاحترام والاعتراف، وكنت حريصة على أن أقدّم خبرتي لطلبة وفنانين من مختلف الجنسيات العربية والأجنبية.”
في تلك الأرض، لم تكن اللوحة مجرد مادة للعرض، بل لغة للتبادل، ومجالًا للتدريب والنقل المعرفي. درّست سناء، وقدّمت ورشات، وكانت جزءًا من المشهد الفني النابض، لتصبح فعليًا مكسبًا ثقافيًا لا مجرد مشاركة عابرة.
من الملامح البارزة في تجربة سناء هو الحضور الأنثوي الكثيف، الذي لا يُقدّم كزخرف أو كبُعد بصري، بل كطاقة داخلية مشبعة بالتناقض والعمق. وجوهها لا تبتسم، بل تنظر. لا تُغوي، بل تواجه.
إنها وجوه تُولد من عمق اللوحة، وتُحاكي المتلقّي من مكان غامض، بين الحلم والتأمّل والاحتراق.
الفن كرسالة اجتماعية لا مجرّد ممارسة جمالية
سناء ليست فنانة تُنتج لأجل الإنتاج، بل توجّه فنّها أحيانًا لخدمة قضايا إنسانية واضحة.
حين صدر لها مؤخرًا كتابها الفني الأدبي “نضال من ألوان” عن دار “نقوش عربية”، لم تكتفِ بتوقيعه في مدينة الثقافة في تونس، بل أعلنت عن تبرّعها الكامل بعائدات الكتاب لصالح دور الأيتام.
فعلٌ يُجسّد إيمانها بأن الفن الحقيقي لا ينعزل عن الحياة، ولا يرفرف فوق المعاناة، بل يغمس ريشته في الواقع أيضًا.
سناء هيشري، أديبة، باحثة، وفنانة تشكيلية بلجيكية من أصول تونسية.
درست في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة ببروكسل، وهي عضوة في اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين.
تُعرض أعمالها باستمرار في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ عام 2010، و تمتدّ مسيرتها لأكثر من عشرين عامًا بين الفن التشكيلي وتدريس قواعد وتقنيات الفنون الجميلة، عبر ورشات وفعاليات ومعارض أُقيمت في بروكسل، دبي، وتونس.
شاركت في عشرات المعارض، وقدّمت ورشًا تدريبية، ودرّست لفنانين من خلفيات ثقافية متعددة، وأسهمت في تطوير الحراك الفني المعاصر عربيًا.
تحصلت على جوائز وتكريمات عديدة لمساهمتها البارزة في تطوّر الفن التشكيلي في العالم العربي، وشاركت في لجان تقييم المسابقات الفنية.
صدر لها مؤخرًا كتاب “نضال من ألوان”، وهو عمل يجمع بين التجربة التشكيلية والرؤية الأدبية، وخصّصت جميع مبيعاته دعمًا إنسانيًا لدور الأيتام.
تُعرض أعمالها باستمرار في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ عام 2010،
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.