حين ننظر حولنا في هذا الكون الفسيح المترامي الأبعاد , ونرى الكم الهائل من الأشياء المتاحة لنا ولرصدنا , سنعتقد للوهلة الأولى أننا من المستحيل أن نتمكن من فهم هذا الكون الشاسع ونصاب بالدهشة أكثر حين نتعمق في فهم هذه الأشياء المتنوعة وكمها الهائل , ولكن حين ننظر إلى شيء ما محدد وبسيط سيختلف الأمر فورا ونبدأ القدرة على التفكير , وهذا يعطينا مؤشر سريع أولي أن كل شيء موجود لا بد من إتباع نظام معين له , ولا بد من فهم نظام عمل هذا الشيء أو ذاك قبل أن نباشر النشاط والقيام بأي نشاط .
ولكل شيء موجود أو وحدة معينة من الأشياء التي يمكن أن نراها نظامه الخاص به وقوانينه ونواميسه وظروف تشكله والكثير غيرها من المعلومات الضرورية عن أي شيء قبل البدء بالعمل , أي لا بد من مرحلة معرفة وبحث عن الشيء أولا وفهم نواميسه الداخلية وعلاقاته الخارجية وغيرها , وبعد ذلك تأتي مرحلة التطبيق والممارسة , أننا نقوم بهذه العملية حتى في ابسط النشاطات , ولكنا لا نرصد ذلك بل نستعمله وكأنه شكل لا إرادي من عمل الدماغ والوعي .
و هنا يبدأ مكمن الخلل في فهمنا لذاتنا ولقدرات دماغنا , وقدرتنا على السيطرة عليه وتشغيله واستعماله بشكل إرادي قدر الإمكان , أي تحويل ما أمكن من طاقته إلى طاقة إرادية يمكن توجيهها والاستفادة من هذا التشغيل والاستعمال الإرادي , وهنا تصبح لدينا مساحة إضافية غير متخيلة من الإرادة , و الإرادة تعني حرفيا , (حشد جميع الطاقات
و القدرات الإنسانية المادية والفكرية الذهنية والروحية معا وتسخيرها كطاقة محركة لتحقيق هدف معين).
هذا هو تعريف الشيفرة الكونية لمفهوم الإرادة .
وبهذا يتضح لنا تماما أن لكل شيء نواميسه وعلينا فهمها لكي نتمكن من التعامل مع أي شيء موجود , وهنا تبرز لدينا قضية ضرورية , طالما هي ظاهرة لنا يمكننا رصدها فبالضرورة أن لدينا القدرة على فهمها وتحليلها والبحث عن مصادرها لكي نتمكن من فهم أصولها ومنشأها , وهذا يعتبر من أساسيات نواميس المعرفة ذاتها كنشاط أنساني يخضع لنواميس معينة أيضا وهو فاعل متفاعل مفعول .
وحين البحث عن هذه النواميس في مصدرها نكتشف على الفور أن مصدرها شيء عام شمولي اشمل من كل النواميس ويشملها جميعها أيضا , بل ويشكل الأساس الثابت لها بينما تتحرك هي في نطاق معين يسمح لها بتشكيل تفاصيل متنوعة مذهلة منظمة مقنونة بشكل يثير الدهشة من هذا النظام المتقن الإبداعي العميق , أنه الوجود المطلق والعام والشمولي والأزلي و ألا نهائي , أنها المطلقيات الكونية التي تشكل أساس الوجود , وتأتي هذه المطلقات لتشكل المدخل الأول لفهم التفاصيل ألاحقة .
وهذا المطلق الكوني الموزع على ستة فروع نسميها ( المطلقات الستة) دماغ الإنسان عاجز عن فهمها العميق ودوما يخضعها لوعيه المسطح عن الحقيقة فيسطحها , وهنا لا نبحث في المطلقيات ذاتها بل نبحث في النواميس التي نشأة عن هذه المطلقات , فهذه لدينا القدرة على رصدها وفهمها وتفكيك رموزها , وبالمراقبة و الرصد تمكنا من فهم نواميس معينة تضبط الظواهر الكبيرة مثل المجموعة الشمسية و المجرات البعيدة وحركتها وانتظامها , ادر كناها كعقل ووعي جمعي .
وفي جميع الفلسفات القديمة ما قبل النظام السياسي , بحث موضوع المطلق والشمولي والعام والأزل وألا نهائي , ويقر بها الجميع وبحقيقة أنها غير مفهومة للوعي البشري حتى الآن , و أنها أساس ووعاء الوجود و الأكوان , و أنها المطلق الذي عجزنا عن فهمه وسيبقى كذلك إلا ما لا نهاية , وفي الأديان والفلسفة القديمة تتنوع التسمية لهذا المطلق.
ولكن في النهاية المضمون متفق عليه من حيث المبدأ , أي قوة غير مفهومة تنظم هذا الكون وتضبطه , جهة تعتقد أن قوة ذكية وضعت الكون و النواميس كلها , وجهة أخرى ترفض تسمية ذكية وتقول طبيعية , و أخرى تجزئها لعدة قوى متناقضة كما في الفلسفة والديانة الكنعانية القديمة مثلا , و الأخلاط الأربع المعروفة لدى الكنعانيين القدماء , هي ذاتها التي اقتبسها الإغريق وشكلوا أساس آلهتهم عليها , بل نظرية الأخلاط الأربعة المنسوبة لليونان هي أيضا من منتجات الحضارة الكنعانية حرفيا .
لنعود إلى موضوعنا الأساسي!
لكل شيء أي كان نوعه وحجمه نواميس , ولكن هذه النواميس جميعها متشابهة ومصدرها نظام اشمل و أوسع , وبدا الإنسان في اكتشاف قوانين كونية مباشرة مرصودة مثل قانون الجاذبية العام وغيره من النواميس الكونية الفيزيائية والمنطقية وغيرها , وبهذا توصلنا إلى تأكيد قاطع أن هناك قوانين شمولية كونية تشمل كل شيء في الكون , وأن هذه النواميس هي في النهاية موحدة ويمكننا فهمها , بل ورصدها ووضعها في نظام معين لنتمكن من استعمالها ذهنيا
و أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي أن نضعها في نظام مشابه لوجودها وفعلها في الواقع قدر الإمكان , وبذلك نصبح قريبين من الواقع أكثر وقادرين على فهمه وتسخير نواميسه لصالحنا قدر المستطاع لإرادتنا وعقلنا وطاقاتنا الذهنية الجبارة
وبعد فهم الخاص و العام الشمولي أصبح لدنا واضح أن الكون ذاته له نواميس بل أن الوجود بحد ذاته ليس سوى معادلة ما , وهذا أوصلنا إلى نتيجة حتمية وهي أن الوجود عبارة عن معادلات رياضية ونظام معين يحكم حركة ووجود الأشياء , وهو السهل الممتنع والبسيط والمعقد والظاهر أمامنا والخفي , والثابت والمتحرك والمنسجم والمتناقض , وأي كان هذا الوجود نوعه فهو غارق في النهاية في جملة من الظروف والشروط والضرورات والحتميات المحتملة والجبرية أحيانا
و المحيطة التي تتحكم بالحدث .
لكي نفهم أي شيء بسيط علينا أولا فهم نظام عمله وإلا بقينا في حيرة من كيفية التعامل معه قبل فهم هذا النظام, ولكي نفهم النظام الشامل الخاص بنا , علينا أن نفهم النظام العام للوسط المحيط أيضا , ولكي ندرك أصل هذا النظام وهذه النواميس يجب العودة إلى جذورها ومنشأها , وبذلك نحن مضطرين إلى متابعة هذه الجذور إلى ابعد حد ممكن , وهذا يعني أننا بإمكاننا تتبع تمظهر هذه النواميس منذ بداية المواد الغازية الأولية للكون , أي من الكون الجنيني المبكر
و بدايات التشكل الأولي للمادة الغازية الأولية , هذا رصديً ولكن نظريا بإمكاننا القول أن النواميس موجودة بوجود الحيز الكوني وأن هذا النظام شمولي هو تكامل متوازن , والحيز الكوني الأول يحمل هذه النواميس في داخله أزليا
وهي ليس خارجية عنه بل من جوهره ذاته ومن خواصه .
أن فهم هذه القوانين الكونية الشمولية يشكل أساس لأي اختصاص كان نوعه , وفي جميع الاختصاصات تراعا هذه القوانين تلقائيا بوعي أو بدون وعي , فبعضها خطر جدا وقد يؤدي إلى انف جارات مدمرة أو انهيارات مروعة أو حرائق أو غيره , لنتخيل إننا لا نراعي قوانين السير حين نمضي في قيادة السيارة , إنها معادلة بسيطة فقط في السير والحركة في الشارع والتنقل , لنتخيل هذا على مستوى الحياة النشاط الإنساني ونظام الطبيعة والوجود . قد نعتقد أن الأمر معقد للغاية ولكن في الحقيقة دنا نفكر به ابعد من ذلك .
والإنسان يراعي القوانين الكونية ويلتزم بها حتما وإلا لما استطاع البقاء ملاين السنين , وكذلك الحيوانات فهي تراعي وجدود وفعل هذه النواميس الكونية بشكل حتمي وغريزي طبيعي , بإدراكها ومستوى تطور دماغها و جهازها العصبي , المبني على القواعد الغريزية في استكشاف الوسط المحيط والتأقلم معه .
إن البنيان الاجتماعي والحركة الاجتماعية من اعقد أشكال الحركة على كوكب الأرض , لكونها نتاج وتجسيد لحركة وفعل ووجود الوعي الإنساني , وهذا يعني بالضرورة وطبعا أن تكون هذه الحركة من اعقد أشكال الوجود وأكثرها تعقيدا ورقي على كوكب الأرض حتى ألان .
من هنا تأتي أهمية دراسة وفهم الفلسفة والمنطق وعلم نواميس الكون وفهم فعلها , وبدون فهم فعل هذه النواميس الكونية وفعلها وأثره وكيفية فعلها في البنية الاجتماعية , سيكون من الصعب جدا والمرهق قيادة هذه الحركة , قد تقاد ولكن هذا سيكون معتمد على الخبرات المجردة والغير علمية والمعتمدة على الخبرات وفهم توازنات الصراعات والحركة السياسية والاقتصادية و الجيوسياسية والإستراتيجية , ولكن مهما بلغة هذه العلوم والاختصاص تبقى غير مكتملة بدون فهم القانون العام الشمولي التي تخضع له جميع الظواهر بالضرورة بما في ذلك قوانينها الخاصة بها .
وامتلاك ناصية هذه القوانين وفهمها يسهل على القائد رؤية الإبعاد العميقة للحدث وفهم قوانينه , مما يمكنه من الرؤية السليمة الثاقبة , وإعطاء التوجيهات الضرورية في مكانها الضروري والطبيعي المناسب الغير مبالغ فيه أو ضعيف وغير منسجم مع الظرف والحدث .
المجتمع اله واعية عظيمة وهائلة ومعقدة وقيادتها تحتاج إلى فهم نظام هذه الآلة الكبيرة التي ستقاد في النهاية من خلال مجموع كبيرة من القادة والموجهين يشكلون مفاصل النظام الاجتماعي برمته , إن فهم قوانين التطور الاجتماعي وحركة المجتمع البشري وربطها بالقانون الكوني الشمولي يعني القدرة على الرؤية و القيادة وتوجيه المجتمع بشكل منسجم مع النظام الكوني الوجودي الشمولي العام , وهنا يبدأ الخاص والإبداع به , حين يحقق الانسجام بين النواميس الخاصة و العامة , ويتاح المجال أمام الملكة المحركة والقائدة لهذا الحدث و الموقف , و كذلك للإبداع في وضع البرامج والخطط المناسبة التي ستحقق نسبة عالية جدا من التطبيق وربما تفوق المتوقع في بعض الظروف والحيان إذا ما اكتملت لها شروط تنفيذها كما هو مرسوم ومعد .
ذلك بفضل فهم نظام عمل النواميس الكونية ورؤيتها بوعي والتخطيط ضمن مسارها بل استغلال هذه القوانين أحيان كثيرة يحقق نتائج خيالية وغير متوقعة .
(ليس بالضرورة أن نكون جميعنا فلاسفة ولكن علينا دوما أن نفكر بطريقة فلسفية).
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.