من مجرياتِ القدر : كما يعيشُ الإنسان في حياتِه لحظاتٍ من القوة ، يعيشُ أيضاً لحظاتٍ من الوهنِ والانكسار ، يرى فيه ضَعفَه كمثلِ القشةِ التي قَصَمت ظَهرَ البعير ، والأصعبُ أن يكونَ ذلك الضعف ليس نتاجَ تقصيره أو قلةَ حيلته ، بل هو قمعٌ وظلمٌ وطغيانٌ وطمعٌ في مقدراتٍ كَتَبَها اللهُ له ، جَعَلتَه قوياً قادراً على العطاءِ والجهدِ والمثابرة لتحقيقِ أحلامِه والدفاعِ عنها ، ليصلَ إلى ما يصبو إليه ، ولكن يبدو أن الكعكةَ في يدِ اليتيمِ عجبه كما يقول المثلُ الشائع ، بالطبعِ هي ليست كعكهً ولا هو يتيمٌ ، بل نصيبٌ من الأنصبةِ التي وَزَعها اللهُ تعالى على عِبادِه ، فينظر إليه الغرباءُ وأصحابُ النفوسِ الضعيفةِ التي تستحلُ ما في أيدي غيرهم .
منذُ عقودٍ ممتدةٍ نعيشُ في مختلفِ أرجاءِ الوطنِ العربي لحظاتٍ من الانكسار ، فمن سطوٌ على بلدانٍ عربية ، إلى احتلالٌ للبشرِ والحجر ، نرى من يدافع دون جدوى ، ونرى من يجد فيه مصلحتَه ، نشاهدُ الأشباحَ يسعَونَ في الأرضِ فساداً ، والغرباءَ هم أصحابُ النفوذِ والسلطة ، أما أصحابُ الأرضِ والعرضِ فقطعاً أصبحوا غرباءَ شوارعِهم وبيوتِهم ، يبحثون عن جيرانِهم فلم يجدوا منهم أحداً ” صديقاً أو مدافعاً ” .
” الغرباء لا يشربون القهوة ” عنوانٌ ليس غريباً على من له صلة بالمسرحِ وكُتَابِه ، استوحيته من عملٍ مسرحيٍ لِكاتبِنا الكبير محمود دياب ” رحمة الله عليه ” الذي كان مهموماً بقضايا أُمتِه العربية ، جَسَدَ من خلالِ روايتِه المسرحية التي حَمَلَت نفس العنوان الوضع الراهن في الأرضِ المحتلة ” فلسطين ” ، وكيف كان الغرباءُ لهم اليدُ الطولى فى سحبِ البساطِ من تحت أقدامِ أبناءِ أرضِ الأنبياءِ والرسل ، وتوزيع مقدراتها على رؤوسِ الأشهاد .
الغرباء هم من يزورونك ، ” لا ” بل يقتحمونك ، فليسوا ضيوفاً أو أصدقاءً جاءوا ليشربوا معك القهوة ، ولكن لغرضٍ آخر ، وهو ما يقع تحت بندِ الاغتصاب ، يريدون أن يسلبوكَ بيتك القديم الذي عشت فيه كما عاش فيه آباؤك وأجدادك ، يريدون أن يسرقوا ما هو ملكٌ لك من انتمائك لبلدك ، لوطنك ، لأصلك ، فالوطنُ لا يكون وطناً إلا بالانتماء وهو ما يريدون أن يسلبوه منك .
إذن هم في حكمِ الغزاة ، لابد وأن تقفَ بكلِ قوتك أمامهم وضدهم .
الحالةُ التي نحن فيها الآن متشابهة والعنوان جذوره متشعبة ، وأصبح صالحاً في كلِ زمانٍ ومكان ، فقهرُ الرجالِ انكسار ، وغلاءُ الأسعارِ غريبٌ يطرقُ البابَ بلا رحمةٍ ولا استئزان ، ومن يستحلون قوت الضعفاء هم غرباءُ الدينِ والوطن وليسوا أصدقاء ، وزائروا الليلِ الذين يقفزونَ على أحلامِ الموظفينَ البسطاء في مقارِ أعمالهم ” مصاصوا دماء ” ، يتغذون على جوهرِ حياتهم ، ينهبون أموالهم ويسبدلون مقاعدهم ومناصبهم ، بل هم الغرباء الحقيقيون أو الجماعة التي تريدُ تغييرَ هويتك واقتلاعك من جذورك لمصلحتهم ومصلحة من وراءهم ، ولكن لن يحيدونا عن حبِ الانتماء والدفاعِ عن الحقوقِ المسلوبةِ ومقاومةِ تجارِ الحياة .
لعلها كانت البداية .. ولم تكن النهاية .
فهم ليسوا أصدقاء بل غرباء ، والغرباء ” أبداً ” لن يشربوا القهوة .
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.