كُتاب

عزيزتي أوروبا مصالحك مع الشرق

مصر : محمد جوهر حامد

منذ آلاف السنين؛ كانت أوروبا والشرق متصلتين عبر طرق للتجارة والثقافة أشهرها “طريق الحرير”، الذي لم يكن مجرد مسار للبضائع بل جسراً للفنون والعلوم والأفكار، ولكن اليوم وفي ظل تحوّلات جيوسياسية واقتصادية هائلة، تعود هذه العلاقة لتطفو على السطح كعامل حاسم في تشكيل مستقبل القارة العجوز، فبينما تتجه الولايات المتحدة نحو آسيا في إطار “المحور الآسيوي”، وتتصاعد المنافسة بين القوى العظمى، تجد أوروبا نفسها على مفترق طرق؛ إما التعويل على التحالف التقليدي مع الغرب، أو انتهاج استراتيجية أكثر توازناً تعترف بصعود الشرق كشريك لا غنى عنه.

إن السؤال هنا: (لماذا يجب أن تكون مصالح أوروبا المستقبلية متشابكة بشكل وثيق مع الشرق؟)؛ لقد شهد العقدان الماضيان تراجع الهيمنة الأمريكية تدريجياً وصعود قوى شرقية كالصين والهند، مما أدى إلى تحوّل النظام الدولي من أحادي إلى متعدد الأقطاب، وذلك وفقاً لتقرير “معهد بروكنجز” ٢٠٢٢، فإن الناتج المحلي الإجمالي للدول الآسيوية سيشكل ٥٠% من الاقتصاد العالمي بحلول ٢٠٤٠، مقارنة بـ ٣٠% في ٢٠٢٠، وهذه النقلة تفرض على أوروبا إعادة تعريف دورها كفاعل دولي

لا سيما مع تزايد الاعتماد الأمريكي على آسيا في مواجهة الصين، لكن التحدي الأكبر لأوروبا يكمن في عدم القدرة على تبني موقف موحّد تجاه الشرق، بسبب انقسامات داخلية، ففي حين تدعم دول مثل ألمانيا وإيطاليا تعزيز العلاقات مع الصين ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، تُبدي دول شرق أوروبا تحفظات بسبب الروابط الأمنية مع واشنطن، وهنا يُظهر تحليل “مركز كارنيغي للشرق الأوسط” ٢٠٢٣ أن أوروبا قد تخسر فرصة تاريخية إن لم تستثمر في شراكات استراتيجية مع الشرق، بدلاً من الاكتفاء بدور تابع للغرب.

إن الاعتماد الاقتصادي المتبادل (التجارة والاستثمارات) مع الصين التي تعد الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي ذات أهمية قصوى، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما ٦٩٦ مليار يورو في ٢٠٢٢، ولكن العلاقة لا تقتصر على تبادل السلع، بل تمتد إلى الاستثمارات في البنية التحتية والتكنولوجيا، وحسب تقرير البنك الدولي (٢٠٢١) استثمرت الصين أكثر من ١٢٠ مليار دولار في موانئ أوروبية مثل “بيرايوس” اليوناني

مما عزز موقعها كبوابة تجارية بين آسيا وأوروبا ، ولا يُقتصر الأمر على الصين فقط؛ فدول الخليج، عبر صناديقها السيادية، تضخ مليارات الدولارات في قطاعات الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الأوروبية، ففي ٢٠٢٣ أعلن “صندوق الاستثمارات العامة” السعودي عن استثمار ٣ مليارات دولار في مشاريع هيدروجين أخضر في ألمانيا وذلك حسب تقرير وكالة الطاقة الدولية ٢٠٢٣، وهذه الخطوات تعكس تحوّلاً جذرياً في مصادر رأس المال العالمي، حيث يصبح الشرق مصدراً للتمويل بدلاً من مجرد سوق.

ومما لاشك فيه أن أزمة الغاز الروسي بعد الحرب الأوكرانية أظهرت هشاشة الاعتماد الأوروبي على مصدر واحد، وهنا؛ برز دور الشرق كبديل استراتيجي، فقد وقّعت ألمانيا اتفاقية مع قطر لتوريد الغاز الطبيعي المسال لمدة ١٥ عاماً، بينما تسعى المفوضية الأوروبية إلى تعزيز التعاون مع أذربيجان عبر “الممر الجنوبي للغاز” كما وضح تقرير وكالة الطاقة الدولية الصادر في ٢٠٢٣

ويظهر هنا أهمية دول الشرق الأوسط، حيث تُعد دول مثل السعودية والإمارات، ركائز محتملة للتحوّل نحو الطاقة المتجددة، فمشروع “نيوم” السعودي، الذي يعتمد كلياً على الطاقة الشمسية، قد يصبح شريكاً لأوروبا في تصدير الهيدروجين الأخضر، وهو ما تؤكده خطة “REPowerEU” التي تهدف إلى استيراد ١٠ ملايين طن من الهيدروجين الأخضر بحلول ٢٠٣٠.

لا تقتصر العلاقات دائما على الاقتصاد والسياسة، بل تشمل بعداً إنسانياً عميقاً؛ فبرامج التبادل الطلابي مثل “إيراسموس+” توسعت لتشمل جامعات في تركيا والإمارات، مما يعزز الحوار بين الشباب، ووفقاً لتقرير “مؤسسة آنا ليند” ٢٠٢٣، فإن ٤٠% من الطلاب الأوروبيين يُبدون اهتماماً بدراسة اللغات الشرقية مثل العربية والصينية، مقارنة بـ ٢٠% قبل عقد، لكن هذا التفاعل لا يخلو من تحديات، أهمها أزمة الهجرة والاندماج، ففي حين تستقبل أوروبا ملايين اللاجئين من سوريا وأفغانستان، تتعثر سياسات الدمج، مما يغذي الخطابات الشعبوية

وهنا يقترح “مرصد الهجرة الأوروبي” تعاوناً ثلاثياً بين أوروبا ودول الشرق الأوسط وأفريقيا لإدارة الهجرة عبر استثمارات تنموية، بدلاً من الاعتماد على الحلول الأمنية وحدها.

رغم الفوائد؛ تواجه أوروبا معضلة في التوفيق بين مصالحها وقيمها الداعية لحقوق الإنسان، فالصفقات مع الصين تنتقد بسبب قمع الإيغور، بينما تثير شراكات الطاقة مع الخليج تساؤلات حول الحريات وفقاً لتقرير “منظمة العفو الدولية” الصادر في ٢٠٢٣، فإن ٦٠% من الاستثمارات الأوروبية في الشرق تتجاهل معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية، لكن الخبراء مثل “جوزيف ناي” يُذكّرون بأن السياسة الخارجية الناجحة تعتمد على الموازنة بين المثالية والواقعية، فبدلاً من القطيعة

يمكن لأوروبا استخدام نفوذها الاقتصادي لدفع إصلاحات تدريجية، كما حدث في اتفاقية التجارة مع فيتنام التي شملت بنوداً لحقوق العمال، فالشرق لم يعد “الآخر البعيد”، بل هو شريك في مصير مشترك سواء عبر طرق الحرير الرقمية، أو مشاريع الطاقة الخضراء، أو الحوار الثقافي، فمصالح أوروبا تكمن في تبني رؤية طويلة الأمد تعترف بتعددية الأقطاب وتستثمر فيها، ولن يكون هذا المسار خالياً من العقبات، لكن التاريخ يُعلّمنا أن القارات التي تعرف كيف تتكيف مع التحوّلات هي التي تُكتب لها البقاء.


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

هانى خاطر

د. هاني خاطر حاصل على درجة الدكتوراه في السياحة والفندقة، إضافة إلى بكالوريوس في الصحافة والإعلام، يشغل منصب رئيس الاتحاد الدولي للصحافة العربية وحقوق الإنسان بكندا، و رئيس تحرير موقع الاتحاد الدولي للصحافة العربية وعدد من المواقع الأخرى.هاني خاطر صحفيًا ومؤلفًا ذو خبرة عميقة في مجال الصحافة والإعلام، متخصصًا في تغطية قضايا الفساد وحقوق الإنسان والحريات، يركز في عمله على تسليط الضوء على القضايا المحورية التي تؤثر على العالم العربي، ولا سيما تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية.على مدار مسيرته المهنية، نشر العديد من المقالات التي تتناول انتهاكات حقوق الإنسان والحريات العامة في بعض الدول العربية، فضلًا عن القضايا المتعلقة بالفساد الكبير، يتميز أسلوبه الكتابي بالجرأة والشفافية، حيث يسعى من خلاله إلى رفع مستوى الوعي وإحداث تغيير إيجابي في المجتمعات.يؤمن هاني خاطر بدور الصحافة كأداة للتغيير، ويعتبرها وسيلة لتعزيز التفكير النقدي ومحاربة الفساد والظلم والانتهاكات، بهدف بناء مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً