
هل تساءلت يومًا عن سر هذا البلد الذي ذكره الله في كتابه مرارًا؟ عن أرض باركها منذ القدم، وقال عنها على لسان نبيه يوسف: “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين”؟ هل خطر ببالك أن المصريين القدماء أول من سجدوا لله، وأول من نطقوا بالتوحيد؟
منذ فجر الإنسانية، والبحث عن المعنى والغاية يدفع البشر نحو الأرض التي أشرقت منها أنوار الهداية، وكانت مصر — ولا تزال — واحدة من أعظم المسارح التي شهدت هذا السعي النبيل. إنها الأرض التي تجلى فيها الله، والتي احتضنت أعظم المواجهات بين أنبياء الله والطغاة، وكانت ملاذًا آمنًا للمؤمنين والموحدين عبر الأزمنة.
لغة التوحيد محفورة على جدران الأهرام
في متون الأهرام، نجد نقوشًا مذهلة تقول: “واع واعو ننس نو” – أي “واحد أحد”، و”خبر دس إف” – “موجود بنفسه”، و”نن سنو إف” – “ليس كمثله شيء”. أليست هذه ذاتها معاني “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ”؟ هنا فقط، ندرك أن المصريين نادوا بـ “الله الواحد الأحد”، قبل أن يعرف العالم معنى التوحيد.
الروح الدينية في مصر القديمة سائدة فلم يكن الدين طقسًا منفصلًا، بل روحًا تتخلل الحياة. الكهنة، المعابد، الطقوس، مذهب أون، الأشمونين، ومنف… كلها فسّرت الخلق كفعل إلهي، ورفعت من شأن “ماعت” – العدالة الإلهية – كقيمة تتجاوز الحياة والموت.
مفاتيح الإيمان في الهيروغليفية، تعني “حنفا” الخضوع للإله الواحد. وكان المصريون يصلّون ثلاث مرات، ويسجدون للأذقان، كما قال تعالى: “يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا” [الإسراء:107]. وكانوا يصومون عن الطعام والكلام، كما فعلت مريم: “فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ…” [مريم:26].
الرموز المصرية… لغة لا شرك
فما اعتُبر آلهة، لم يكن سوى رموز. فـ”آمون” هو الله الباطن، و”آتون” هو الله الظاهر، و”ماعت” العدالة، و”حورس” النور. كما نقول اليوم “النور” و”العدل” و”الرحمن”. وكانوا يرسمون العرش الإلهي يطوف حوله الناس، كما في قوله: “وَتَرَى ٱلْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ…” [الزمر:75].
كان المصريون القدماء يحجون إلى “كعبة إدريس” في أبيدوس، ويطوفون سبعًا، ويذبحون قرابين تُطهّر بالماء وتوزع على الفقراء، بعد تلاوة تراتيل فيها “بسم الإله”. أليس هذا مطابقًا لقوله: “فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيه
إدريس… أول المرسلين بعد آدم من صعيد مصر
من أرض الصعيد، خرج نبي كريم، هو إدريس عليه السلام، أول من خط بالقلم، وأول من نزل عليه جبريل بالوحي بعد آدم. كان ساكنًا في جنوب مصر، وجاء برسالة التوحيد. نعم، في مصر بدأت أولى رسائل السماء. يقول تعالى: “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ…” [النحل:36].
كانت دعوته إلى “الملة الحنيفية”، وهي ذاتها ديانة الأنبياء من بعده. وكان يُطلق على أتباعه “الصابئة”، وصفهم الله بقوله: “إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ… وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ…” [البقرة
دخلها من بعده إبراهيم عليه السلام وتزوج منها أم العرب، فولدت له إسماعيل فعمر بهما مكة وأقام قواعد البيت وأذن في الناس بالحج. أما يوسف فحكم مصر وعلّم أهلها التوحيد، وعاش فيها يعقوب وأبناؤه. وُلد موسى، وخرج منها نبيًا، وواجه فيها فرعون. وكذلك هارون، وإدريس، ولقمان الحكيم… ارتبطت أسماؤهم بمصر؛ بالمقام أو النسب أو الحكمة. بل إن الله تجلى لموسى في سيناء: “فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ…” [القصص:30]، “وَطُورِ سِينِينَ” [التين:2]، حيث لم يتجلّ سبحانه في مكان سواها.
لم تذكر أرض في القرآن كما ذُكرت مصر، بل جاءت باسمها الصريح في أكثر من موضع، من ذلك قوله تعالى: “ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ” [يوسف:99]. وباركها الله في التين والزيتون وطور سينين، وقصّ علينا كيف تجلى في وادي طوى، حيث قال: “إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى” [طه:12].
ووردت إشارات لأماكن مقدسة فيها مثل طور سيناء [المؤمنون:20] و*”وَطُورِ سِينِينَ”* [التين:2]، حيث كان اللقاء الإلهي مع موسى عليه السلام في مصر دون غيرها من بقاع الأرض.
بل جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بأهل مصر، وقال: “إذا فتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمةً ورحمًا” [رواه مسلم]. أليست هذه شهادة خالدة بأن أهل مصر هم أحفاد الموحدين، وأبناء الرحم النبوي، وورثة التاريخ المقدّس؟
فمصر ليست فرعون وقومه ولكنها امرأته وماشطة ابنته والرجل المؤمن ولقمان وسحرته والشعب صاحب الأرض.
نلتقي في الجزء الثاني من المقال
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.