
شهدت دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، تحولات اقتصادية وعمرانية هائلة خلال العقود الأخيرة. فمن ناطحات السحاب إلى المشاريع العملاقة، باتت هذه الدول تُضاهي كبرى مدن العالم في مظاهر التقدّم المادي. لكن هذا التقدّم يطرح تساؤلات حول مدى توازنه مع التنمية الحضارية والإنسانية. فهل يكفي الغِنى المادي لتحقيق نهضة حقيقية؟ أم أن التقدّم الحضاري يتطلب استثمارًا في الإنسان والهوية والثقافة؟
ما هو تقدّم لا بنينا المباني ..
التقدّم يبدا بعقل وفِكَرْ
نرقى إذا صرنا على الأصل باني ..
نزرع حضارة ما تعيش بـ صُوَرْ
أولاً: التقدّم المادي – مؤشرات دون مضمون؟
لا شك أن دول الخليج حققت إنجازات اقتصادية كبيرة، مستفيدة من الثروات الطبيعية والاستثمارات الضخمة. لكن المفكر اللبناني أمين معلوف يحذّر من حصر التقدّم في الإطار المادي، معتبرًا أن “الثروة بغير فكر تتحول إلى عامل استهلاك وفساد”. فالمظاهر الاقتصادية قد تخفي خلفها فراغًا ثقافيًا وهوياتيًا إذا لم تُرافقها مشاريع تنموية شاملة.
ثانيًا: التقدّم الحضاري – الإنسان أولاً
يرى المؤرخ التونسي هشام جعيط أن “النهضة لا تتحقق إلا عندما تُعاد صياغة العلاقة بين الإنسان وتاريخه”، معتبرًا أن التنمية تبدأ من داخل الذات لا من محاكاة الخارج. فالتنمية الحقيقية تقتضي تعزيز التعليم، والبحث العلمي، وبناء منظومة قيمية تحترم التاريخ وتستشرف المستقبل.
ثالثًا: نموذج نقدي للحداثة – إدوارد سعيد كمرجعية
في أطروحته الشهيرة الاستشراق، ينتقد إدوارد سعيد النموذج الغربي في تمثيل الشرق، ويدعو إلى بناء حداثة محلية نابعة من السياق التاريخي والثقافي العربي. فبحسب سعيد، لا يمكن استيراد الحداثة بمعزل عن شروطها الإنسانية. وهو ما يُحذر منه كثير من الباحثين عند الحديث عن تجربة الخليج في استنساخ بعض النماذج التنموية الغربية.
رابعًا: التجربة السعودية – رؤية 2030 كنموذج للتوازن
تُعد المملكة العربية السعودية من أبرز دول الخليج التي تسعى لإعادة تعريف مفهوم التقدّم، من خلال رؤية 2030 التي أطلقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. تهدف هذه الرؤية إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط، مع التركيز على بناء الإنسان وتعزيز الهوية الثقافية.
1. الاستثمار في الإنسان والتعليم:
تسعى المملكة إلى تطوير نظام تعليمي حديث يُعزز من مهارات التفكير النقدي والابتكار، ويُركّز على القيم الإسلامية والهوية الوطنية. كما تم إطلاق برامج لابتعاث الطلاب إلى الخارج، بهدف اكتساب المعرفة والعودة للمساهمة في التنمية الوطنية.
2. تعزيز الهوية الثقافية:
تُولي المملكة اهتمامًا كبيرًا بالحفاظ على التراث الثقافي وتعزيزه، من خلال إنشاء هيئات ثقافية وتنظيم فعاليات تُبرز التاريخ والحضارة السعودية. كما تم إدراج مواقع سعودية ضمن قائمة التراث العالمي، مما يُعزز من الوعي بالهوية الوطنية.
3. تمكين المرأة والشباب:
تُعتبر مشاركة المرأة والشباب في التنمية من أولويات المملكة، حيث تم تنفيذ إصلاحات تُعزز من دورهم في المجتمع، وتُوفر لهم فرصًا للمشاركة في مختلف المجالات.
4. التنمية المستدامة:
تسعى المملكة إلى تحقيق التنمية المستدامة من خلال تنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على النفط، والاستثمار في قطاعات جديدة مثل السياحة والتقنية.
واخيراً يطرح د. نايف بن نهار مقارنة عميقة ومثيرة للتأمل بين مفهوم التقدّم في الخليج كـ “غنى مادي”، وبين “التقدّم الحقيقي” المبني على “الأصالة والعمق التاريخي”. والرسالة توصل بشكل بسيط لكن فعّال:
مو كل تطوّر عمراني أو مادي يعني تطوّر حقيقي، لأن التقدّم الأصيل ينبع من هوية الأمة، من ثقافتها وتاريخها وقيمها.
الطرح هذا يعكس نوع من الوعي النقدي تجاه المظاهر السطحية للتقدم، ويدعو للتفكير:
ما هو النموذج اللي نبي نقدمه للعالم؟ نموذج الأبراج والا نموذج الإنسان
إن التقدّم الحقيقي لا يُقاس فقط بالمظاهر المادية، بل يتطلب بناء إنسان واعٍ ومجتمع متماسك يعتز بهويته وثقافته. وتُعد التجربة السعودية في إطار رؤية 2030 نموذجًا يُحتذى به في السعي لتحقيق توازن بين الغِنى المادي والتقدّم الحضاري. فمن خلال الاستثمار في الإنسان والثقافة، تُرسّخ المملكة أسس نهضة شاملة ومستدامة.
يا دارنا لا تغتري في مبانيك ..
العز في فكرك، وماضيك الزهر
المراجع:
• معلوف، أمين. الهويات القاتلة. دار الفارابي، 1998.
• جعيط، هشام. أزمة الثقافة العربية. دار الطليعة، 2001.
• سعيد، إدوارد. الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب، دار المعرفة، 1991.
• “Saudi Vision 2030.” Vision 2030, www.vision2030.gov.sa.
. هل دول الخليج متقدمة (د. نايف بن نهار)
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.