لم أكن يوماً في حياتي سياسياً أو ثورياً ، ولا حتى يستهويني الحديث في “السياسةِ” أو “الرياضة معشوقةِ الجماهير” ، رغم اقترابي من دوائرِ صنعِ اتخاذ القرار بحكمِ طبيعةِ عملي والتي تفرضُ علي في بعض الأحيان التعامل مع مثل هذه الأحداث ، ليس غريباً أو عيباً وإن رأى البعض غير ذلك ، فلكلٍ منا ميوله واتجاهاته .
لكن أعشقُ النقد ويستهويني الإسقاط ، أبحثُ في رواياتِ شكسبير عن نهاياتِه المأساويةِ المتيم بها في إطارِ صراعِ شخوصِه بين قوى الخيرِ والشر ، الحبِ والكراهية ، الصراع بين الحياةِ والموت ، والأهم فكرة أكون أو لا أكون .
أعشقُ استفزازي الذي يخلقه بداخلي أدباء الغرب ممن برعوا في كتابةِ الشعر والنثرِ والروايةِ بأسلوبٍ ربما يصعبُ التنقل بين مفرداتِه بسهولة ، وهو ما يجعلُ من هذا الصراع متعةً للتحدي .
تستهويني الغيرةَ الحميمةَ بيني وبين أصدقائي الشعراء عندما أجد كلماتَهم الشعريةَ وتعبيراتَهم الجماليةَ تتنقلُ بين دروبِ الحبِ تارةً والإسقاطِ السياسي والاجتماعي تارةً أخري في سهولة ويسر ، وليس أمامي غير شرف المحاولة والقفز إلى ساحتِهم التي أرى فيها سعادتي .
أعشقُ الروائي والأديب العالمي نجيب محفوظ لاقترابِه الشديد من الواقعِ ورصده لكل دخائلِ النفسِ البشريةِ بمهارةٍ شديدةٍ وبساطةٍ يفهمها الجميع ، حيث يرى الناس كما هم في الواقع ، وليس كما يُـريد أن يراهم .
“الحرافيش” ملحمةُ محفوظ ودُرةُ أدبِه وأكثرُ أعمالِه قدرةً على تجسيدِ الخيرِ والشر ، الحقِ والباطل ، الظلمِ والعدل ، هم ملاذي في البحثِ عن حقيقتِهم والمعاني المختلفةِ لكلمتِهم ، عندما وصف الأديبُ العالمي في ملحمتِه الحارةَ المصرية بالنموذجِ المُصغَّرِ للكون كله ، وراح يُصورُ عبرَ عشرِ حكايات ، كل حكاية منها تمثلُ جيلاً من الحرافيش مسيرةَ الحياة وتقلُّباتِ الزمن ، مثلما فعل شكسبير في أهمِ وأشهرِ رواياتِه المسرحية : هاملت ، ماكبث ، عطيل ، الملك لير ، يوليوس قيصر ، تاجر البندقية ، روميو وجوليت ، وترويض النمرة ، فصراعُ الخيرِ والشر هو بدايةُ الحدوتهِ في هذا الكون والهدف الرئيسي الذي خُلقنا من أجله .
ربما اختلفت كلمةُ الحرافيش من زمنٍ لآخر ، حيث فسر النجمُ الراحل أحمد مظهر ” أول من أطلق اللقب على أعضاء شلتهِ من الحرافيش” أن الكلمة من أصل تركي و تنقسم إلى “حارة” و “فيش” أى بدون حارة ، فالحرافيش هم من ليس لديهم حارة ، وهو مصطلح يشبه “الصعاليك” ولكن لا أعلم كلمة الحرافيش موجودة في قاموس اللغةِ العربيةِ أم لا ، ليرد الأديب العالمي نجيب محفوظ بأنها غير موجودة لأنها كلمة عامية .
ولكن مع البحث في معجم المعاني الجامع نجد أن “حرافيش” جمع حرفوش وتعني سفلة الناس وأرازلهم وهم من تهيؤوا للقتال .
كما أن في العصر المملوكي أُطلِقَ على المصريين سكانِ القاهرة من الطبقاتِ الشعبيةِ خصوصاً الحرفيين ، ألقاب الحرافيش أو العوام أو الزعر ، وفي نهايةِ العصرِ المملوكي ساد لقب الحرافيش واستمر علماً على الطبقاتِ الشعبيةِ حتى نهايةِ العصرِ العثماني ، فهم من قضوا على سطوةِ المماليك والعثمانيين ، هم أجدادُنا مِلح أرض مصر وأصلها ، وكما قالت أم المصريين السيدة صفية زغلول “الحرافيش” كالرمال تتحملُ السيرَ فوقها ، ولكن لو ثارت فهى تعصفُ بالظالمِ وتهلكه .
أياً كانت الكلمةُ لها أصل في اللغة أو درب من دروبِ خيالِ المؤلفينَ فشخوصها أصبحوا واقعاً ومصدراً لإلهامِ المبدعينَ الباحثينَ عن قراءةِ الأحداث ومفجري الثورات عبر تاريخِ مصرَ القديمِ والحديث .
فالحرافيش بلغةِ نجيب محفوظ الذي أعطى للكلمةِ رونقاً وهذب معناها هم “عاشور الناجي الجد والابن والأحفاد” الذين عادوا إلى قلبِ القاهرة لرفعِ الظلمِ والطغيان عن أهالي المحروسة ، هم “النبوت” الذي شد رحالَه لمواجهةِ قوى الشر ، هم “نقاءُ وصفاءُ وقوةُ قلبِ المصريين” الذين قاوموا الاحتلال وثاروا على المحتل ، هم “طبقةُ البروليتاريا” إن جَازَ التعبير في مواجهةِ البرجوازية المتعفنة والطبقات الأرستقراطية الاحتكارية لكل مقدراتِ هذا الوطن .
الحرافيش هم من صنعوا ثورات مصر المتعددة وصولاً إلى ثورتي 25 يناير و 30 يونيه مع الشباب ومازالوا ، هم من يثورون على الفسادِ و غلاءِ الأسعارِ وجشعِ التجار ومحتكري الأسواق .
الحرافيش هم من يبنون مصرَ الحديثة بأموالِهم وسواعدِهم وعرقِهم ، هم أبناءُ مصرَ الفرعونيةِ الذين قضوا على الهكسوس وثاروا على الطغاةِ والمفسدينَ وأبداً لن يكونوا سفلةَ الناسِ وأرازلهم “بالمفهومِ الدارجِ والشائعِ للكلمةِ لدينا” بل هم عليةُ القومِ وتاجُ رؤوسهم ، فأبداً لن يحيدوا عن حمايةِ مصرَ من كيدِ الأعداء ، فهم دائماً صناعُ التاريخِ الخالد عبرَ العقودِ والأزمان ، وصناعُ الثورات وقتَ المحنِ والأزمات التي يمكن أن تعصف بالبلاد .
عصام التيجي
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.