
تتناوب فترات الاستقرار والازدهار في تاريخ الأمم مع لحظات الاضطراب السياسي والاجتماعي، وغالبًا ما تُعرّف هذه اللحظات بشخصيات قيادية مثيرة للجدل، وسياسات تثير انقسامًا عميقًا في المجتمع؛ وتاريخ الولايات المتحدة في هذا السياق، يبرز فيه اسمان هما (ريتشارد نيكسون ودونالد ترامب) على الرغم من الفارق الزمني الكبير بينهما،
إلا أنه يجمعهما تأثيرهما العميق على السياسة الأمريكية، والطريقة التي هزت بها إدارتاهما أسس النظام السياسي، حيث يعتبر عهد الرئيس ترامب، الذي امتد من عام 2017 إلى عام 2021 – فترة أولى – ومن مطلع 2025 وحتى الآن؛ فترة استثنائية في التاريخ الأمريكي الحديث؛ حيث تميزتا بالفوضى السياسية والانقسام الاجتماعي الحاد، وتبرزان كفترتين أثارتا أسئلة جوهرية حول حدود السلطة الرئاسية واستقرار المؤسسات الديمقراطية
وغالبًا ما تتم مقارنة فترة رئاسة ترامب بفترة رئاسة ريتشارد نيكسون، فبينما خلّفت رئاسة نيكسون “صدمة” بسبب فضيحة ووترجيت التي أدت إلى استقالته في عام 1974، اتسمت رئاسة ترامب بـ”الفوضى” الناتجة عن خطاب استقطابي وأحداث عنف مثل اقتحام الكابيتول في 6 يناير 2021.
تولى ريتشارد نيكسون الرئاسة في عام 1969، في فترة مضطربة من تاريخ الولايات المتحدة؛ كانت حرب فيتنام تستعر، وكانت البلاد منقسمة بشدة حول هذه القضية، بالإضافة إلى ذلك، كانت حركة الحقوق المدنية في أوجها، وكانت هناك احتجاجات واسعة النطاق ضد التمييز العنصري والظلم الاجتماعي والانقسامات الاجتماعية والثقافية تعصف بالبلاد
ووعد نيكسون بـ “إعادة النظام” و”توحيد الأمة”، وسعى إلى تعزيز سلطته عبر سياسات خارجية مثل “الفيتنامية” (إحلال السلام عبر التفاوض) وداخلياً عبر خطاب “القانون والنظام” الذي استهدف الناخبين المحافظين، لكن إدارته سرعان ما غرقت في سلسلة من الفضائح والأزمات وواجهت اتهامات بالتورط في أعمال غير أخلاقية، التي بلغت ذروتها في فضيحة ووترغيت.
ورث نيكسون حربًا لا تحظى بشعبية متزايدة في فيتنام. على الرغم من وعوده بـ “فيتنامة” الحرب (أي نقل المسؤولية إلى القوات الفيتنامية الجنوبية)، إلا أنه وسّع نطاق العمليات العسكرية، بما في ذلك الغزو السري لكمبوديا في عام 1970
والتي أثارت احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، وبلغت ذروتها في حادثة إطلاق النار في جامعة كينت ستيت، حيث قُتل أربعة طلاب على يد الحرس الوطني، وعلى الرغم من التحديات التي واجهها، حقق نيكسون عددًا من الإنجازات الهامة خلال فترة رئاسته، فقد قام نيكسون بزيارة تاريخية إلى الصين في عام 1972
مما أدى إلى تطبيع العلاقات بين البلدين بعد عقود من العداء، وتفاوض على اتفاق سلام مع فيتنام الشمالية في عام 1973، مما أدى إلى انسحاب القوات الأمريكية من البلاد، وأنشأ وكالة حماية البيئة (EPA) في عام 1970، مما ساهم في حماية البيئة والموارد الطبيعية.
إن فترة رئاسة نيكسون على الرغم من إنجازاتها، ستظل مرتبطة إلى الأبد بفضيحة ووترجيت، وتعود أحداثها إلى يونيو 1972، حيث تم اعتقال خمسة رجال وهم يحاولون اقتحام مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية في فندق ووترجيت في واشنطن العاصمة، وكشفت التحقيقات لاحقاً أن هؤلاء الرجال كانوا يعملون لصالح حملة إعادة انتخاب نيكسون وتورط البيت الأبيض في التغطية على الجريمة
بما في ذلك تدمير الأدلة ودفع رشاوى للشهود، وأدت التسجيلات السرية التي أمر نيكسون بتثبيتها في المكتب البيضاوي إلى إثبات تورطه المباشر، وحاول نيكسون التستر على تورطه في الفضيحة، لكن جهوده باءت بالفشل، وفي عام 1974 أمرت المحكمة العليا نيكسون بتسليم التسجيلات للمحادثات
وكشفت هذه التسجيلات أن نيكسون كان على علم بالتستر على الفضيحة، وأنه أمر بدفع أموال للمتورطين فيها لإسكاتهم، مما دفع الكونجرس إلى بدء إجراءات العزل، وفي مواجهة احتمال عزله من قبل الكونجرس، استقال نيكسون من منصبه في 9 أغسطس 1974، كانت استقالته بمثابة صدمة كبيرة للأمة الأمريكية، وأدت الفضيحة إلى تآكل الثقة في الحكومة والمؤسسات الأمريكية
وأظهر استطلاع لـ”غالوب” عام 1974 أن ثقة الأمريكيين في الحكومة انخفضت من 53% في الستينيات إلى 36% بعد الاستقالة، إلا أن الفضيحة أدت إلى إصلاحات تشريعية مثل قانون مراقبة الاستخبارات (1978)، الذي فرض رقابة أكبر على الأنشطة الأمنية.
بعد أكثر من أربعة عقود، صعد لأول مرة رجل الأعمال المثير للجدل دونالد ترامب إلى السلطة في عام 2017، على إثر فوزه المفاجئ في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، ولم يكن لديه أي خبرة سياسية سابقة، ثم عاد مجددا في عام 2025، وتميزت حملته الانتخابية بخطاب شعبوي مناهض للدولة العميقة ومؤسساتها، مع تركيز على قضايا مثل الهجرة والتجارة
ووفقاً لتحليل أجرته مجلة “فورين أفيرز”، استغل ترامب وسائل التواصل الاجتماعي لنشر رسائل مثيرة للانقسام، مثل وصف المهاجرين غير الشرعيين بـ”الغزاة”، وشعار “اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، واستغل ترامب الغضب والإحباط لدى شريحة كبيرة من الناخبين الأمريكيين، الذين شعروا بأنهم مهمشون من قبل النخب السياسية والاقتصادية، وهاجم وسائل الإعلام والمؤسسات القائمة
ووعد بـ “تجفيف المستنقع” في واشنطن، وتميزت فترة رئاسته السابقة والحالية بالعديد من الخصائص التي أعادت إلى الأذهان صدمة نيكسون، ولكن في سياق مختلف تمامًا.
لم يتردد ترامب في تحدي الأعراف والتقاليد السياسية، وانتقد القضاء ووكالات الاستخبارات، وحتى العملية الانتخابية نفسها. أثار هذا النهج قلقًا عميقًا بشأن استقرار المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون، فخلال رئاسته، واجه ترامب اتهامات بالتورط في “التطهير السياسي” عبر فصل مسؤولين مستقلين مثل مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي
كما أُدين مرتين من قبل الكونغرس (الأولى بتهمة إساءة استخدام السلطة (2019)، والثانية لتحريضه على الاضطرابات في 6 يناير 2021)، وفقاً لتقرير لجنة التحقيق في أحداث الكابيتول، فإن خطابه الذي زعم فيه تزوير الانتخابات أشعل عنفاً منظمًا، وتميزت رئاسته بعدد من السياسات المثيرة للجدل، حيث قام بتخفيضات ضريبية كبيرة للشركات والأفراد الأثرياء، وحاول إلغاء قانون الرعاية الصحية (Obamacare)، لكن جهوده باءت بالفشل
ووعد ببناء جدار على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، لكنه لم يتمكن من الحصول على التمويل اللازم للمشروع، وكذلك انسحب من عدد من الاتفاقيات الدولية، بما في ذلك اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، وأدت إدارة ترامب إلى تآكل ثقة الجمهور في الانتخابات، حيث أظهر استطلاع لـ ” نيويورك تايمز” أن 70% من الجمهوريين يشككون في نتائج 2020، كما أضعفت سياسته تجاه الإعلام مفهوم “الحقيقة” عبر وصف المنافذ الإخبارية بـ “الأخبار المزيفة”.
واجه ترامب مثل نيكسون إجراءات العزل من قبل مجلس النواب، بتهمة إساءة استخدام السلطة وعرقلة عمل الكونجرس، وعلى الرغم من تبرئته من قبل مجلس الشيوخ، إلا أن الإجراءات سلطت الضوء على الانقسامات الحزبية العميقة في البلاد.
في عام 2020، فقد خسر الانتخابات الرئاسية أمام جو بايدن، لكنه رفض الاعتراف بالهزيمة، وزعم زوراً حدوث تزوير واسع النطاق، وأدت هذه الادعاءات إلى هجوم على مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021، في محاولة لمنع التصديق على نتائج الانتخابات، فخلال فترة رئاسته، واجه ترامب عددًا من التحقيقات والمساءلات، فقد قاد روبرت مولر تحقيقًا في تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وما إذا كان ترامب قد عرقل العدالة، وتم عزل ترامب من قبل مجلس النواب في عام 2019 بتهمة إساءة استخدام السلطة وعرقلة عمل الكونجرس
لكن مجلس الشيوخ برأه من التهم، الإ أنه تم عزله مرة أخرى من قبل مجلس النواب في عام 2021 بتهمة التحريض على التمرد، بعد أن اقتحم أنصاره مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021
على الرغم من الاختلافات الظاهرة بين نيكسون وترامب، إلا أن هناك بعض أوجه التشابه اللافتة بينهما، فكلا الرئيسين استخدما مؤسسات الدولة لتحقيق مكاسب شخصية، فبينما استغل نيكسون مكتب التحقيقات الفيدرالي لملاحقة خصومه، ضغط ترامب على أوكرانيا للتحقيق في منافسه جو بايدن، كما اعتمد كلاهما على الكذب المنهجي، فنيكسون أنكر تورطه في ووترغيت، بينما زعم ترامب أن الانتخابات “سُرقت” دون دليل، وكلتا الإدارتين واجهتا أزمة ثقة عميقة في الحكومة والمؤسسات؛ ففي حالة نيكسون؛ كان بسبب فضيحة ووترغيت والتستر عليها، أما في حالة ترامب
؛ كان بسبب خطابه الشعبوي وهجماته على وسائل الإعلام والمؤسسات القائمة، وساهمت كلتا الإدارتين في زيادة الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة. استخدم نيكسون “الاستراتيجية الجنوبية” لجذب الناخبين البيض المحافظين في الجنوب، بينما استغل ترامب الانقسامات العرقية والثقافية والاقتصادية في البلاد، وتحدى كل من نيكسون وترامب المؤسسات السياسية القائمة، حاول نيكسون استخدام وكالات الاستخبارات ضد خصومه السياسيين، بينما انتقد ترامب القضاء ووسائل الإعلام والعملية الانتخابية نفسها، ويمكننا القول بأن كلتا الفترتين تميزتا بالاستقطاب السياسي الحاد والانقسام الاجتماعي، وواجه كل من نيكسون وترامب تحقيقات ومساءلات بسبب سلوكهم أثناء وجودهم في السلطة، وأدت كلتا الفترتين إلى أزمة ثقة في الحكومة والمؤسسات السياسية.
ومع ذلك؛ هناك بعض الاختلافات المهمة بينهما، فقد تولى نيكسون الرئاسة في فترة مضطربة من تاريخ الولايات المتحدة، مع حرب فيتنام والحركة المدنية؛ بينما تولى ترامب الرئاسة في فترة أكثر استقرارًا نسبيًا، على الرغم من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وكان نيكسون جمهوريًا محافظًا تقليديًا، بينما كان ترامب شعبويًا يمينيًا، ونيكسون أكثر اهتمامًا بالسياسة الخارجية، بينما كان ترامب أكثر تركيزًا على القضايا الداخلية، ونيكسون سياسيًا محنكًا وماهرًا، بينما كان ترامب دخيلًا سياسيًا وغير تقليدي. ونيكسون كان أكثر حذرًا وتكتيكيًا
بينما كان ترامب أكثر صراحة واندفاعًا، وأهم اختلاف بينهما أن نيكسون استقال من منصبه، في حين أكمل ترامب فترة ولايته.، وتميز عصر ترامب بتأثير التكنولوجيا، حيث أصبحت منصات مثل تويتر أداة رئيسية للتواصل المباشر مع الجماهير، مما سمح بنشر نظريات المؤامرة بسرعة، في المقابل؛ اعتمد نيكسون على الإعلام التقليدي، الذي لعب دوراً رقابياً عبر تحقيقات صحفية عميقة.
إن تجربتا نيكسون وترامب أظهرتا أن الديمقراطية الأمريكية مرنة لكنها ليست منيعة، فبينما نجحت المؤسسات في إجبار نيكسون على المغادرة، فإن صعود الشعبوية في عصر ترامب يهدد بإضعاف المعايير الدستورية، ويتطلب الحفاظ على الديمقراطية يقظةً شعبية وإصلاحات مؤسسية، مثل تحديث قوانين الانتخابات وفرض رقابة أكبر على السلطة التنفيذية
فلكل من صدمة نيكسون وفوضى ترامب تأثير عميق على المؤسسات الأمريكية، فقد أدت فضيحة ووترغيت إلى إصلاحات تهدف إلى زيادة الشفافية والمساءلة في الحكومة، مثل قانون حرية المعلومات وقانون تمويل الحملات الانتخابية، ومع ذلك، أدت أيضًا إلى تآكل الثقة في الحكومة والمؤسسات، مما جعل من الصعب على القادة السياسيين بناء توافق في الآراء واتخاذ القرارات
في حين أدت فوضى ترامب إلى تفاقم هذه المشاكل، وأدت هجماته على وسائل الإعلام والقضاء ووكالات الاستخبارات إلى تقويض مصداقيتها وسلطته، كما أدت إلى زيادة الاستقطاب السياسي، مما جعل من الصعب على الحزبين العمل معًا في القضايا المشتركة.
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.