الهجرة النبوية والواقع العربي المرير
بقلم: ناصر السلاموني

هل نحن نحتفل ببداية العام الهجرى أم بالهجرة النبوية ؟!
المعظم لا يفرق بين الاثنين؛ ونحن حين نتأمل الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، نجد أنها لم تكن مجرد انتقالٍ مكاني، بل كانت تحولًا حضاريًا ومعركة للبقاء، تشبه كثيرًا ما تعيشه أمتنا العربية اليوم من تشتت وضغوط وتحالفات ظالمة وأطماع خارجية.
كثيرون يجهلون أن رسول الله ﷺ لم يهاجر في أول المحرم، بل خرج في أواخر صفر، ووصل إلى المدينة في الثاني عشر من ربيع الأول، وكان هذا الحدث بداية لتأسيس الدولة الإسلامية. أما اعتماد المحرم كبداية للسنة الهجرية، فكان قرارًا إداريًا من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يرمز لا إلى زمن الرحلة، بل إلى معناها العميق.
لقد سبقت الهجرة إلى المدينة هجرتان إلى الحبشة، تمامًا كما يفر كثير من العرب اليوم من أوطانهم تحت القهر، لكن الفرق أن هجرتهم اليوم بلا ظهر يحميهم، بينما كانت هجرة الصحابة تحت مظلة الإيمان والثقة في الله. قال الله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 72].
وفي مكة، كان النبي ﷺ محاصرًا مع قومه في شعب أبي طالب، تُمنع عنهم المؤن، ويُجاع الأطفال، ويُضغط على الكبار، في مشهد يُعيد إلى الذاكرة ما يحدث في غزة وسوريا واليمن ولبنان من حصار وتضييق وتجويع ممنهج.
ومع أن أبا طالب لم يؤمن، إلا أنه وقف مدافعًا عن محمد ﷺ بشرف ونخوة القبيلة. وهذا يُذكرنا بأن الدفاع عن الحق لا يتطلب دائمًا إيمانًا دينيًا، بل إنصافًا وعدلًا، وقد يخرج من غير المؤمنين من يقف موقف الشرف، في حين يصمت بعض “المؤمنين” عن نصرة الحق!
حتى أبو سفيان، قبل أن يُسلم، رفض أن يكذب حين سأله هرقل عن النبي ﷺ، فقال: “لولا الحياء أن يُؤثر عني كذب، لكذبت”. وهو اليوم درس للذين يفترون الكذب في الإعلام، ويبيعون ضمائرهم للعدو بثمن بخس.
ثم كان التخطيط الدقيق للهجرة، الذي أثبت أن الإيمان لا يتناقض مع الحذر والتدبير. فالنبي ﷺ وضع خطة دقيقة تتضمن ردّ الأمانات، وتشتيت الانتباه، واختيار الطريق الأقل توقعًا، والاختباء في غار ثور، والأخذ بالأسباب قبل التوكل على الله. قال تعالى:
﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].
وفي ليلةٍ حالكة من العام الأول للهجرة (622م)، خرج سيدنا محمد ﷺ ورفيقه الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه من مكة المكرمة، تاركَيْن وراءهما ديار قريش التي اشتد أذاها. انطلقا من بيت السيدة خديجة رضي الله عنها، حيث كانت نقطة البداية لهذه الرحلة المباركة. لجآ إلى غار ثور، فاختبآ فيه ثلاثة أيام، يحتميان من عيون المتتبعين. ثم استأنفا المسير عبر الصحراء القاحلة، يقطعان مسافة 380 كيلومترًا في ثمانية أيام، حتى أشرقت أنوار قباء في المدينة المنورة، فكانت محطتهما الأخيرة. استمرت الرحلة المباركة أحد عشر يومًا، كانت مليئة بالإيمان والخطر والعناية الإلهية.
خرج النبي ﷺ من بين أيدي قريش، ثم تلا:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9]،
ورمى التراب في وجوههم وهو يقول: “شاهت الوجوه”.
فليتعلم الجميع أن الصدق مع الله، والتخطيط المتقن، كفيلان بنصرة أي قضية عادلة.
ثم أعلنت قريش عن مكافأة مائة ناقة لمن يمسك بالنبي ﷺ، وتبعهم سراقة. فلما اقترب، غاصت أقدام فرسه، فارتد، ووعده النبي بسواري كسرى، فلبسهما فعلًا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فالدين الحق لا يُمنع، ولو اجتمع عليه أهل الأرض.
وصل النبي ﷺ المدينة، فاستقبله المهاجرون والأنصار في موضع يُسمى “ثنيات الوداع”، بفرح منشدين: “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع”،
وبنى أول مسجد في قباء، وأسس المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهو درس عظيم في وحدة الصف الداخلي، الذي تفتقده أمتنا اليوم وسط انقسام قومي وطائفي ومذهبي تغذيه قوى الشر.
ورغم التحديات الكبرى التي واجهها المسلمون في هذا الوقت من:
مصادرة قريش لأموال المهاجرين، والاستيلاء على بيوتهم وتجارتهم،وتأليب القبائل عليهم، وحروبهم في معارك شرسة مثل بدر وأحد والخندق، كما تُصادر ثروات العرب اليوم وتُنهب مواردهم، وتُحرّض عليهم الشعوب المجاورة، ويُحاصرون إعلاميًا واقتصاديًا. وكما يحدث لأهل غزة من قتل وتجويع ومحاصرة، وتخاذل الشعوب العربية في نصرتهم، وتحامل أوروبا والغرب عليهم بوساطة الإعلام الفاسد الذي يُصوّر أصحاب الحق أنهم إرهابيون.
وبرغم هذه التحديات، صمد الرسول ﷺ والمسلمون، ودخل مكة فاتحًا دون قطرة دم، وقال لمن آذوه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وصدق فيهم قول الله تعالى:
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5].
وبهذا التسامح، انطلقت الدولة الإسلامية تُضيء الشرق والغرب.
فهل نستفيد من دروس الهجرة اليوم؟
هل نتعلم أن الدفاع عن القضية لا يكون بالخطب، بل بالإعداد؟
هل نتعلم أن وحدة الصف تُسقط الحصار؟
أن العدل لا يعرف دينًا، وأن الكاذب يسقط ولو كان يتلو القرآن، وأن الصادق يعلو ولو لم يُسلِم؟
هل يدرك حكام العرب أن المهادنة مع الباطل لن تحميهم، وأن الأمة لن تنهض إلا على طريق التضحية، والصبر، والإيمان بعدالة قضيتها؟
الهجرة ليست حكاية تُروى كل عام، بل هي مرآة لما نعيشه، وجرس إنذار لمن أراد البقاء أو السقوط.
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.