منذ أن فقد بصَرَه وهو في الرابعةِ من عمرِه ، وأنار اللهُ بصيرتَه ، وأصبحَ علماً من أعلامِ التنويرِ والحركةِ الأدبيةِ الحديثةِ في مصر ، التي أنجبت رموزاً في عهدِه غيروا مسارَ الفكرِ والإبداعِ ومهدوا لنا طريقَ العلمِ والثقافةِ ، بعد أن عاشت البلادُ فتراتٍ من الجهلِ والظلام .
فكانت بدايتَهُ بنورِ القرآنِ الكريم الذي بدَدَ مخاوفَه وأنارَ له عوالمَ جديدةً من المعرفةِ والتحررِ والانفتاحِ الثقافي ، الذي لم يثنِه عن الاعتزازِ بالموروثاتِ الحضاريةِ العربيةِ والمصرية .
طة حسين .. ذلك الأديبُ والمفكرُ المصري الذي قادَ مشروعاً فكرياً شاملاً استحق به لقبَ عميدِ الأدبِ العربي ، وتحمّلَ في سبيلِه أشكالاً منَ النقدِ والمصادرة .
عاش طه حسين من حياةِ الفقرِ والجهلِ ما أفقدته بصَرَه في طفولتِه ، لكنّ ذلك لم يثنِ والدَهُ ” حسين علي سلامة ” من إلحاقهِ بكُتٌابِ قريةِ ” الكيلو ” بمحافظةِ المنيا في صعيدِ مصر ، التي وُلِدَ فيها وعاش على أرضها سنواته الأولى ، حيث فاجأ الصغير شيخَه ” محمد جاد الرب ” بذاكرةٍ حافظةٍ وذكاءٍ متوٌقدٍ مكناه من تعلمِ اللغةِ والحسابِ وحفظِ القرآنِ الكريم في فترةٍ وجيزة .
أحداث يعلمُها الجميع سطّرها في روايته الشهيرة ” الأيام ” التي جسدت سيرتَه الذاتية ، وكانت مقرراً ضمن مناهجِ دراستنا في المرحلةِ الثانوية ، بل وعمل فني حقق نجاحاً كبيراً بين الأعمالِ السينمائيةِ والدراميةِ المصرية .
لم يكن طريق طه حسين مفروشاً بالورود ، فكان يرى بظلامِ عينيِه ظلامَ الحاقدينَ والناقمينَ على موهبتِه التي منحه اللهُ إياها ، حتى بين أروقةِ الأزهرِ الشريف منارة العلمِ والعلماء ، الذي تعلم فيه العلومَ الدينيةَ والعربيةَ وما تيسر من الثقافة ، فقضى أربعَ سنواتٍ ضاق ذرعاً فيها وكأنها أربعونَ عاماً على حدِ قوله ، ذلك بالنظرِ إلى رتابةِ الدراسةِ وعقمِ المنهجِ وعدم تطورِ الأساتذةِ والشيوخ وطرقِ وأساليبِ التدريس .
ويقول دكتور محمد عمارة ، بدأ طه حسين حياتَه بالتمردِ على شيوخِ الأزهر ومناهجِ التعليم فيه ، حتى حال الشيوخ بينه وبين النجاحِ في امتحانِ شهادةِ العالمية ، فغادر الأزهر مغضوباً عليه .
ولكن بنورِ من أحبوه وآمنوا بموهبتِه واصل مسيرةَ البحثِ والاكتشاف والتحق بالجامعة الاهلية فكان أول المنتسبينَ لها منذ نشأتِها عام ١٩٠٨ ميلادية ، ودرس فيها العلومَ العصرية والحضارةَ الإسلامية والتاريخ والجغرافيا وعدداً من اللغاتِ الشرقية ، وحصل على أولِ دكتوراه تمنحها هذه الجامعة بعنوان ” تجديد ذكرى أبي العلاء ” عام ١٩١٤ ميلادية ، لتبدأ أولى معاركه مع الفكر التقليدي ، حيث أثارَت أطروحتُه عن ” رسالة الغفران للمعري ” موجةً عارمةً من الانتقادِ في الأوساط الدينية عند نشر هذه الرسالة في كتاب ، واتهمه أحد أعضاء البرلمان بالمروق والزندقة والخروج على مبادئ الدين الحنيف ” لأنه ألٌفَ كتاباً فيه إلحاد وكفر ” مثلما وُصِفَ من قبل أبو العلاء المعري عند نشر كتابه ” رسالة الغفران ” في العصر العباسي ، فوصل الأمر إلى حد حرمان طه حسين من حقوق الجامعيين، ولكن سعد باشا زغلول أقنع النائب بالعدول عن مطالبه .
سار طه حسين بخطواتٍ أسرع من أحلامِه التي كانت تواجهها أحجاراً عثرة أكسبتَه صلابةَ العزيمةِ وحبِ الانفتاحِ على ثقافاتِ الغرب ، ففي عام ١٩١٤ ميلادية أوفدته الجامعةُ المصريةُ إلى مونبلييه بفرنسا لمتابعة التخصص والاستزادة من فروعِ المعرفةِ والعلومِ العصرية ، فدرس علم النفس والتاريخ الحديث ، لكنه عادَ بعد ثلاثةِ أشهر وحُرِمَ من المنحة المعطاة له لتغطية نفقات دراسته في الخارج ، جراء معارِكه وخصوماتِه المتعددة التي كان محورها الكبير الفرق بين تدريسِ الازهر وتدريسِ الجامعات الغربية ، لكن تدخل السلطان ” حسين كامل ” حال دون تطبيقِ هذا القرار ، فعادَ إلى فرنسا من جديد لمتابعةِ التحصيلِ العلمي ، ولكن هذه المرة في العاصمةِ باريس ، فدرس في جامعتِها مختلف الاتجاهات العلمية ” علم الاجتماع والتاريخ اليوناني والروماني والتاريخ الحديث ” وأعد خلالها أطروحة الدكتوراه الثانية عام ١٩١٨ ميلادية وعنوانها :
” الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون ” إضافةً إلى إنجازِه دبلوم الدراسات العليا في القانون
الروماني .
وفي غضونِ تلك الأعوام تزوج طه حسين السيدة الفرنسية ” سوزان بريسو ” التي كان لها عظيمُ الأثرُ في مسيرتِه العلميةِ والأدبية ، حيث قامت له بدور القارئ وكانت له الرفيقةُ المخلصة التي دعمته وشجعته على العطاء والمثابرة ، وقد رُزِقا اثنين من الأبناء ” أمينة ” التي تزوجت من الدكتور محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر الأسبق ، ” ومؤنس ” الذي حصل على شهادةِ الدكتوراه وعمل في منظمةِ اليونسكو بباريس .
تأثر فكر وأدب طه حسين بالثقافةِ الفرنسية منذ إقامتِه في باريس ودراسته على أيدي كبار الفلاسفة والعلماء والنقاد الفرنسيين ، الذين اعترفوا أيضا بأنه أسهم بالتأثيرِ في الثقافةِ الفرنسية ، وجعل هؤلاء الكبار يتعرفون على عظمةِ الإسلامِ وأصالةِ الثقافةِ العربية ، وأصبحَ طه حسين الجسر الذي حقق التواصلَ بين الثقافةِ العربيةِ القديمةِ والحديثة وبين الثقافةِ الأوروبيةِ والفرنسية .
ولأنه كان يؤمن برسالةِ العلمِ في تجديدِ الفكرِ والثقافةِ وحمايةِ حريةِ الرأى والدعوةِ إلى الإصلاحِ الاجتماعي ، فقد خاض عميد الأدب العربي غِمارَ الحياةِ العلميةِ العامة بقوةٍ واقتدار بعد عودتِه من فرنسا ، فعمل أستاذاً بالجامعاتِ المصرية التي كان له الفضلُ في تأسيسِ عددٍ منها .
وفي عام ١٩٤٢ ميلادية ُُعُيِنَ مستشاراً لوزيرِ المعارف ، ثم مديراً لجامعةِ الإسكندرية ، وفي عام ١٩٥٠ ميلادية أصبح طه حسين وزيراً للمعارف ، وقادَ الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته .
وفي عام ١٩٥٩ ميلادية عاد إلى الجامعةِ بصفة أستاذ غير متفرغ ، وتسلم رئاسة تحرير جريدة الجمهورية .
أثري طه حسين المكتبةَ العربيةَ بالعديدِ من المؤلفاتِ والترجماتِ التي حوت في مجملها دعوةً للتحررِ والانفتاحِ الثقافي ، مع الاحتفاظِ بالقيمِ العربيةِ والمصريةِ الأصيلة ، لكن حداثة أطروحاته اصطدمت ببعض الأفكار المنغلقة التي كانت سائدةً في تلك الفترة ، ورغم ذلك يبقى في الذاكرة مؤلفات جعلت من طه حسين قاهراً لظلامِ الجهلِ والاستبدادِ الفكري ورائداً من روادِ التنوير والإبداعِ الأدبي ونذكر منها :
على هامشِ السيرة ، مستقبل الثقافةِ في مصر ، الشيخان ، في الشعرِ الجاهلي ، في الأدبِ الجاهلي ، حديث الأربعاء ، المعذبون في الأرض ، شجرة البؤس ، دعاء الكروان ، الحب الضائع ، ورائعته ” الأيام ” التي جسد فيها سيرته الذاتية .
حُرِمَ من نعمةِ البصر ، لكنه صنع لنفسه طريقاً من نور ، سار في هديِه باحثاً عن العلمِ ومعلماً ومؤلفا بل ومدافعاً عن قيمِ الحقِ والعدالةِ الفكريةِ والإبداعِيةِ .
رحل عميدُ الأدبِ العربي طه حسين في الثامنِ والعشرينَ من شهرِ أكتوبر عام ١٩٧٣ ميلادية ، بعد ملحمةِ النصرِ العظيم بثلاثةِ أسابيع ، تاركاً تراثاً معرفياً هائلاً من الأدبِ والنقدِ وروايةِ التاريخ والسيرةِ الشخصية ، وأرثاً من الأفكارِ الساكنةِ في الكتبِ والمقالات ، وروحاً تحلقُ في سماءِ الفكرِ والإبداع .
غابَ طه حسين جسداً لكن كروانَ صوتِه مازال يصدحُ في ذلك الفضاءِ العريض .
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.