الجزء الثاني .. مبدأ الشرعية الجنائية بين التشريع الإسلامي والقانون الوضعي

د / سالم دخل الله سليمان عبد الحميد يكتب:

0

القاعدة العامة في الشريعة : أن كــل تلـف أو جـرح لـــم يحدد له الرسول صل الله عليه وسلم دية أو أرشاً فيه حكومـة محددة وغير متروكة للتقدير المطلق بحيث لا يمكن أن تصل الحكومة إلى الديـة أو الأرش المقـرر للتلـف أو الجرح الــذي يليه في الشدة (وهذه القاعدة مجمع عليها من الأمة), وبالتالي فالعقوبة في هذه الجريمة محددة تحديداً لا شك فيه بنصـوص صريحة في المصدر الثاني مـن مصادر التشريـع الإسلامي (السنة النبوية المشرفة) , وبعضــاً منهـا عن طريق المصـدر الرابع (الإجماع) بتحديدها السابق ذكره.

والدية في قطع الأطراف والجراح العمدية هي نفس الدية الواجبة في الخطأ ولكنهما يختلفان فى الوصف ، فدية العمد مغلظة ، ودية الخطأ مخففة.

وبالتالي فالعقوبة في إتلاف الأطراف محددة بشكل قاطع بنصوص صريحة ، وفى حالات قليله بإجماع لاشك فيه ، والإجماع مصدر من مصادر التشريع الإسلامي .

ومما سبق يتبين أن جرائم القصاص والدية منصوص عليها وعلى عقوبتها ، وأصبح من نافل القول التقرير بأن التشريع الإسلامي ، وقد أعمل مبدأ الشرعية الجنائية في جرائم القصاص والدية إعمالاً دقيقاً وعلى ذات غرار مسلكه بشأن جرائم الحدود تقريباً ، والنصوص التي جاءت منظمة لهذه الطائفة من الجرائم هي اصدق شاهد وخير دليل .

والمقصود بجرائم التعزير كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة.

وخلق التشريع الإسلامي لقسم جرائم التعزير وتقنينه هو الإعجاز بعينه ، إذ لم يقف التشريع الإسلامي عند حد أن أوجد حلاً لمشكلة عدم وجود نصوص للتجريم والعقاب ,حيث وضع التشريع الإسلامي الحل المعجز والإعجاز المتحدى به وهو النصوص الثابتة , كالنصوص المعالجة لجرائم الحدود والقصاص والدية , ولكن ذهب التشريع الإسلامي إلى أبعد من ذلك إلى حيث لا يتخيله بشر, بأن قنن حلا لمشكلة قد تطل برأسها ــ وبالفعل أطلت لاحقاً ــ وهى المشكلة التي لم تفطن لها البشرية إلا بعد أن قضت ردحاً عظيماً من الزمن في غياب النصوص ومن ثم القوانين , وردحاً مثله حين سطرت النصوص , فلاحت على الأفق إشكالية جمود النصوص وصيرورتها غيرملائمة بمرور الزمن ,وكذلك إفلات المجرمين حيث إن لم ينطبق النص على جرمه والحالة جامدة هكذا فالمجرم حر وطليق ,وهذا الأمر لا يكون في التشريع الإسلامي في ظل جرائم التعزير حيث إن لم ينطبق النص على فعل الجاني ولم يدخل في دائرة الحدود أو القصاص والدية كان لولي الأمر أن يقتضى حق الدولة في العقاب من خلال التعزير.

إذ بهذا التقسيم المذهل حل المعضلة التي حيرت الفلاسفة وفقهاء القانون ولو رجعوا للتشريع للإسلامي لوجدوا فيه ضالتهم .

فبعد أن ضاقت الأنظمة الوضعية ذرعا بالتقيد بالمعنى اللفظي والحرفي لمبدأ الشرعية بسبب ما أدى إليه من إفلات الكثير من المجرمين من العقاب , نتيجة لمحاصرة القاضي بما يستلزمه من قاعدة عدم اللجوء إلى القياس في التجريم والتزام قاعدة التفسير الضيق للنصوص الجنائية, فقد توصلت هذه الأنظمة إلى وجوب صياغة نصوص التجريم صياغة مرنة تسمح للقاضي بإعمالها على كل ما اتسعت له علة التجريم وحكمته ولو لم تشمله ألفاظ النص وحرفية عباراته وبعد هذه الحقيقة الثابتة لمغزى ومفهوم المبدأ الذي تبنته القوانين الوضعية بعد معاناة وشقاء , أقول هنا بأن هذا هو المفهوم الذي أقرته الشريعة السمحاء لمبدأ الشرعية الجنائية فى مجال التعزير منذ نيف وأربعة عشر قرناً من الزمان(1) وكان نتيجة للمآخذ التي أسفر عنها التطبيق الحرفي لمبدأ الشرعية الجنائية أن ألغته بعض القوانين مثل القانون الروسي سنة1926 ، والقانون الالمانى سنة 1935 ، والقانون الدنمركي سنة 1930

كذلك يضم التعزير بين طياته مبدأ لم تتوصل إليه البشرية إلا مؤخراً هو مبدأ تفريد العقوبة والذي يعنى عدم تطبيق العقوبة بشكل موحد دون النظر لشخص الجاني أو لظرف الجريمة وملابساتها .

قد يظن للوهلة الأولى نظراً للمرونة التي تتسم بها جرائم التعزير , أن مبدأ الشرعية الجنائية غير متوفر في جرائم التعزير , غير أن المبدأ حقيقةً مفعل ولكنه على نحو مخالف لما هو عليه في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ولكنه في النهاية مطبق فالقاضي غير مطلق اليدين على الإطلاق لا تجريماً ولا عقاباً كما يتوهم البعض, إذ لا يملك سلطة تقديرية في جرائم التعزير لا من حيث التجريم ولا العقاب إلا في القدر اليسير.

الأمر الذي يحق معه القول أن جرائم التعزير خاضعة لمبدأ الشرعية الجنائية ,حيث أن غالبية جرائم التعزير ورد النص على تحريمها وحتى ما لم يتم النص عليه فإن ولي الأمر أو القاضي أو من يتولى أمر التشريع مقيد بقيود عدة سنذكرها بعد قليل عند الحديث عن التجريم .

كذلك العقوبة لم تترك لهوى القاضي أو ولى الأمر، بل إن التشريع الإسلامي يكاد يكون قد حدد عقوبات التعزير ,ومن ثم فلا يكون للقاضي إلا أن يحكم بأي من العقوبات المحددة سلطته التقديرية فقط في الإختيار من بين تلك العقوبات ونوضح ذلك عن طريق :

أولاً : التجريم

كما سبق أن ذكرنا أن القاضي ليس في حل في أن يجرم ما يشاء بينما ثمة قيوداً تغل يده عن هذا منها :-

أ – يتقيد القاضي في تجريمه لفعل ما بتحقيق مصلحه للعباد ,والمصالح التي يحميها التشريع الإسلامي هي ( الدين ، والنفس ، والمال ، والعقل ، والنسل ) . فأي يفعل يتعرض لأي من تلك المصالح يعد جريمة تستوجب العقاب ، والفعل الذي لا ينطوي على مساس لأي منها لا يعد جريمة ومن ثم لا يعاقب عليه.

ب – كذلك يتقيد القاضي في أمر التجريم بألا يجرم مباحاً أو يبيح حراماً لقوله سبحانه وتعالى ﴿يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شئ فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر﴾

ج – القاضي لا يملك تجريم كل الأفعال الداخلة في التعزير ، إذ أن الكثير من جرائم التعزير مجرم بنصوص صريحة كتجريم التجسس ، والربا ، الرشوة ، خيانة الأمانة ، وغيرها .

ثانياً : العقاب

ولما كانت جرائم التعزير خاضعة لمبدأ الشرعية الجنائية فإن التشريع الإسلامي لم يترك أمر العقوبة لهوى القاضي بل قيده كما فعل بأمر التجريم ، فحدد إطار عقابي لا يجوز للقاضي تجاوزه ، ولم يكن دور القاضي في العقاب على جرائم التعزير مطلق ، فثمة قيود يتقيد بها القاضي عند توقيعه للعقوبة منها :

أ – لا يجوز أن يصل عقاب التعزير للحد الذي هو من جنسه ، فلا يصل عقاب هتك عرض امرأه أو تقبيلها إلى حد الزنا ، ولا يجوز أن يصل عقاب النصب أو خيانة الأمانة إلى حد السرقة ، وكذلك لا يصح أن يصل عقاب السب إلى حد القذف ، وهكذا ، وأساس ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين)

ب – إن عقوبات جرائم التعزير ليست محلاً للإبداع ، فعقوبات التعزير جلها معلوم وللقاضي الإختيار من بينها ومنها الوعظ ، والتوبيخ ، والجلد ، والتغريب ، والغرامة ، والقتل .

ومنذ بدء الإسلام وحتى وقت نهاية الاحتكام للشريعة الإسلامية يمكن حصر العقوبات التي قضى بها في جرائم التعزير وكأن الأمة أجمعت على مجموعه من العقوبات للقاضي فقط الإختيار منها وليس أن ينشئ ويبدع أشكال أخرى من العقوبات .

هذا مع الإحتفاظ مستقبلاً بإمكانية أستحداث عقوبات عادلة متفقه ومبادئ التشريع الإسلامي وهذا ما لا يرفضه التشريع الإسلامي .

ولم تكن أيضاً عقوبات التعزير مجالاً للانتقام فلا يجب أن تنطوي على ضرر أكبر من الجرم ذاته وإلا فقدت الخاصية التي خلعها عليها التشريع الإسلامي- قبل غيره- وهى ( تناسب العقوبة ) وأخذتها عن الإسلام القوانين الوضعية , إذاً يجب أن تتناسب العقوبة مع الفعل الذي أوجبها لا تزيد ولا تنقص عنه وثمة حقيقةً تطل برأسها من بين السطور السابقة , وهى أن قسم جرائم التعزير يخضع لمبدأ الشرعية الجنائية وبشكل مذهل إذ حقق مرونة النص وحقق أيضاً مبدأ الشرعية الجنائية ,وفوق ذلك خالياً من العيوب ,وهذه هي المعادلة الأصعب التي لم يحققها أي تشريع ولن يحققها أي تشريع إلا أخذاً عن التشريع الإسلامي .

فعندما ينعدم الحد الفاصل بين المجرم والمباح ويتــــرك الأمر للأهواء ,ويأتي التشريع الإسلامي بعلاج هذه الإشكالية على نحو لم يسبق ولم تعرفه البشرية ,حيث بين المباح والمجرم بعيداً عن الجمود وتحقيقـــــــاً لمرونة النص التجريمي دونما إفراط ولا تفريط ، وهـذه المعضلة التاريخية والمعادلة الأصعــــــب في تاريـــــخ القانون الجنائي على مر الأزمان أن يتحقــــق مبــــــــدأ الشرعية الجنائية بكل مميزاته دون عيوبـــه وتتحقـــــق مرونة النصوص بمميزاتها دون عيوبها ويتحقق ثبات النصوص بمميزاته دون عيوبه.

فلقد عانت البشـــرية من تــــرك أمر التجريم للأهواء بدون نص يبين الأفعال المجرمـــة ، ولما تم النص على ما هو مجرم تبدت على الأفق مشكلــة أخرى وهى جمود وصلابة نصوص التجريم ومن ثم خــــــــروج كثير من الجرائم من دائرة التجريم وعدم المرونة لملاحقة ما يستجد من جرائم ، وهذا بدوره يؤدى إلى إفــلات مجرمين كثر من العقاب من جهة ومن جهة أخــــــــرى إحداث فوضى تشريعية نتيجة كثرة التشريعات لعــــــدم ملائمة النصوص لواقع الحال ، فعلاج المشكلة يـؤدى إلى الوقوع في أخرى.

فحقق التشريع الإسلامي المعادلة الأصعب وعـــــلاج المعضلة الأزلية بإقراره لنصــــوص تجريمية ثابتــــــة لا تتغير هي غالباً للجرائم الجسيمــــة متمثلة في (الحدود والقصاص والدية) ، ونصوصاً مرنــة تتغير وفق حاجة المجتمع بحسب الزمان والمكان وتتمثــــــل في (جرائـم التعزير).

ولو لم يأتي التشريع الإسلامي إلا بالتعزير لكفى ، فهو ( معجزة جنائية ) بالمنطق والمنظور الجنائيين للأسباب المتقدمة ، وليس ثمة مدعاةً لتكرارها .

ولما كان هذا ، فإنه لا يكون أمام أي منصف بصير سوى التقرير بغير تردد أو انحياز بأن ما توصل إليه شراح القانون في الوقت المعاصر من مفهوم مرن لمبدأ الشرعية الجنائية بوجه عام قد سبقهم إليه شريعة الخالق وأعملته ولا غرابه في ذلك , فشريعة منزله من الخالق السماوات والأرض ومن عليها يلزم أن تأتى منزهه تسمو ما عاداها مما هو من صنع البشر ومن مجمل ما قيل في الشرعية الجنائية .بات جلياً أن التشريع الإسلامي طبق مبدأ الشرعية الجنائية على نحو معجز في سابقة جنائية تاريخية لم يسبقه أي تشريع وضعي ، وبات من نافل القول قبل ظهور المدرسة التقليدية وقبل مولد بكاريا الذين ينسب إليهما زيفاً هذا المبدأ وبأكثر من ألف ومائة عام .

إعداد .. د / سالم دخل الله سليمان عبد الحميد .. الباحث القانونى

 


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد
دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً