كُتاب

الخير بالتقسيط والاستثمار في الفقراء

بقلم : ناصر السلاموني

عندما أجلس أمام شاشاتنا المنيرة، بحثًا عن أخبار أو معلومات، أجد نفسي وجهاً لوجه مع مشاهد صادمة، تكشف حجم التناقض الذي نحياه. إعلانات تتوالى كالسيل، لا يجمع بينها شيء سوى التوقيت، أما المضامين، فحكاية أخرى من التفاوت الطبقي والاستغلال المغلف بالشعارات البراقة.

فمن جانب، تنهال علينا الإعلانات عن تجمعات سكنية جديدة، كمبوندات فاخرة في أرقى أحياء مصر، بأسعار لا يسمعها المواطن البسيط إلا في الأساطير. مساحات خضراء، شقق وفيلات “بأسعار تنافسية”، ولكنها تنافس فقط في عالم الأثرياء. إقبال كثيف، دعايات مبهرة، وكأن مصر كلها تعيش في مصافِّ الدول الغنية. وأخرى عن سيارات فارهة بها كل وسائل الراحة، وأخرى عن أدوات ومساحيق فاخرة… مشاهد لا تنتمي إلى معاناة الناس في الشوارع والحارات.

ثم، وبينما لا تزال أنوار هذه الإعلانات تتوهج، تبدأ الشاشة تعرض موجة مغايرة تمامًا من الإعلانات: دعوات للتبرع لإقامة مستشفيات خيرية، حفر آبار مياه، كفالة أيتام، زراعة نخيل وزيتون، ذبح الأضاحي بالتقسيط، شنط رمضان، بطاطين الشتاء، وبنك الطعام. والأغرب أن من يُستنهَض للتبرع، ليس هو صاحب الفيلات، بل هو المواطن الفقير الذي بالكاد يجد قوت يومه! ويتم محاصرته برسائل “افعل الخير بالتقسيط”، وكأن القادرين غائبون عن التكليف الشرعي.

وهنا يعلو صوت القرآن الكريم مُناديًا:

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103]

فلم يُخاطَب الفقير، بل الغني… صاحب المال، صاحب المسؤولية.

هذا التناقض المؤلم نراه أمامنا يوميًّا، ولا أحد يتوقف ليفسر هذه الظاهرة العجيبة: بلد يعيش فيه الفقير محاصرًا بإعلانات الأغنياء فيتحسر على حاله ويطالب منه التبرع بشتى الطرق ، والغني غارقًا في دعايات الرفاهية وملذاتها… فلماذا لا يتم إسناد هذه المشاريع الخيرية لرجال الأعمال أو أصحاب القنوات أو مصنعي المنتجات المعروضة!

هل الفقير صار “صندوق تمويل المجتمع”، لا المستحق للعطاء!

ثم يأتي موسم آخر من مواسم الاستغلال كالذى يهل علينا الآن فنرى سماسرة الأحزاب والمرشحين يجمعون البطاقات استعدادا لموسم الحصاد الانتخابى ؛فجأة تتحول أحياء كاملة إلى ساحة لتوزيع كراتين الطعام، شنط رمضان، رشاوى مالية مغلفة بالعطاء، والوجوه السياسية تبتسم في كل زاوية، ليس حبًا بل رغبة في الأصوات..ويُستغل حديث الخير والتكافل، في غير موضعه، ويُغفل قول النبي ﷺ:”كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به” [رواه الطبراني].

فأي سُحت أدهى من شراء ذمم الفقراء بطعام أو مال؟!أليس من المعيب أن يُستغل فقر الناس لشراء أصواتهم؟

أليس من الجريمة أن تتحول كرامة المواطن إلى سلعة موسمية تُشترى بكيس أرز وزجاجة زيت؟

أليس من المخزي أن تتحول فريضة الزكاة إلى وسيلة دعائية في رمضان أو الحج، تؤديها الجمعيات الصغيرة، بينما يغيب عنها كبار رجال الأعمال وأثرياء الحملات الإعلانية؟

أما سمع هؤلاء قول الله تعالى:

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92]

وقوله﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم﴾ [الذاريات: 19]

فلا فضل لأحد في العطاء، بل هو واجب مفروض.

إننا أمام أزمة أخلاقية تتجاوز السياسة والدين. نحن أمام مجتمع يكاد يُقنع الفقير أنه مسؤول عن الفقراء بينما الأغنياء يتنافسون في الشراء والترف، لا في الإنفاق والعطاء.

الفقراء في بلادنا أصبحوا هم المتبرعين، لا المتبرَّع لهم، وهم أصحاب الكرم رغم قلة ما بأيديهم، بينما الأغنياء يتصدرون مشهد الترف ويغيبون عن ميادين التكافل.

نحن بحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات، والحفاظ على الكرامة قبل الحاجة.و بحاجة إلى مرشحين يحملون برامج لا شنط طعام، وإلى إعلام يضيء للحق لا للواجهة.

لأن تبرعات الأغنياء للفقراء لا تبرعات الفقراء هى التى تبنى المجتمع المدني لا نريد شاشات تلمع بالزيف، بل ضمائر تضيء بالحق.


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

🔔

أهم الأخبار

error: Content is protected !!
دعنا نخبر بكل جديد نعــم لا شكراً
العربيةالعربيةFrançaisFrançais