
تُعدّ العلاقات بين الهند وباكستان من أكثر العلاقات توتراً وتعقيدا في جنوب آسيا، إن لم تكن في العالم أجمع، حيث تشكّل واحدة من أطول النزاعات الجيوسياسية تعقيدًا في العالم، وتعود جذورها إلى تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947، وما تلاه من حروب متكررة منذ تقسيمها وحتى الآن، كذلك الأزمات الحدودية المستمرة، مثل أزمة كارجيل وأزمة مومباي 2008، ففي ظل امتلاك البلدين أسلحة نووية، يُعتبر أي تصعيد عسكري تهديدًا وجوديًا للمنطقة والعالم بأسره.
لكن رغم المخاطر الكارثية، تبقى هناك جهات وفاعلون قد يستفيدوا من إشعال التوترات، ويتبادر إلى الذهن ماهي المصالح الخفية أو المعلنة لهؤلاء الفاعلين، بدءًا من النخب العسكرية والسياسية، وصولًا إلى القوى الخارجية والجماعات غير الحكومية، فقد تأسست الهند وباكستان كدولتين منفصلتين في عام 1947 نتيجة للصراع بين الهندوس والمسلمين، وقد أسفر هذا التقسيم عن نزوح جماعي وعمليات قتل جماعي، مما زرع بذور الكراهية بين الشعبين، وشهدت الهند وباكستان ثلاث حروب رئيسية منذ استقلالهما، فبسبب النزاع على إقليم كشمير دخلت كلا البلدين في حرب عام 1947 وحتى 1948، ونتيجة للنزاع على الحدود دخل الطرفان في حرب أخرى عام 1965، ونتيجة للصراع الدائم بينهما انفصلت باكستان الشرقية (بنجلادش) نتيجة حرب عام 1971، وكل حرب من هذه الحروب تركت آثارًا عميقة على العلاقات بين الدولتين، وزادت من التوترات.
هناك كثير من العوامل تؤدي إلى تصاعد التوترات بين كل من الهند وباكستان، فالنزاع على إقليم كشمير أحد الأسباب الرئيسية للتوتر بين الهند وباكستان، فكلا البلدين يدعيان السيادة على الإقليم، مما يؤدي إلى اشتعال النزاعات العسكرية بشكل دوري، وهناك القوميات المتطرفة في كلا البلدين والتي تسهم في تأجيج النزاعات، في الهند؛ تروج بعض الجماعات الهندوسية لفكرة “الهندوسية” كهوية وطنية، مما يزيد من التوتر مع المسلمين، في المقابل؛ تروج جماعات إسلامية في باكستان لفكرة “الجهاد” ضد الهند، وتستخدم الحكومات في كلا البلدين النزاع مع الآخر كوسيلة لصرف الانتباه عن القضايا الداخلية، وفي أوقات الأزمات الاقتصادية أو السياسية، قد تلجأ الحكومات إلى تصعيد التوترات لتعزيز الوحدة الوطنية، والسياسيون في كلا البلدين يستفيدوا من إشعال فتيل الحرب، في الهند
يمكن أن يعزز تصعيد التوترات مع باكستان من شعبية الحكومة، بينما في باكستان؛ يؤدي ذلك إلى تعزيز موقف الحكومة أمام المعارضة، ففي الهند على سبيل المثال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي المعروف بتوجهاته القومية الهندوسية،استخدم خطابًا معاديًا لباكستان خلال حملة 2019 الانتخابية، والتي تزامنت مع غارة بالاكوت، لتعزيز شعبيته، وقد استخدم التوترات مع باكستان لتعزيز شعبيته الداخلية، خاصة في أوقات الانتخابات، ففي مايو 2025 تصاعدت التوترات بعد هجوم في كشمير، مما دفع الهند للرد عسكرياً، وهو ما ساهم في رفع شعبية مودي داخلياً، وذلك وفقًا لتحليل نشرته مجلة “فورين أفيرز”، أما في باكستان فأكثر المستفيدين الجنرال عاصم منير، قائد الجيش الباكستاني منذ 2022
حيث يُعتبر الشخصية الأقوى في البلاد، وفي ظل التوترات مع الهند، منحته الحكومة صلاحيات واسعة للرد العسكري، مما عزز من مكانته ونفوذه الداخلي، ولا يمكن إغفال دور الجماعات المسلحة في ذلك الصراع، وتستفيد الجماعات المتطرفة من عدم الاستقرار، مثل “جيش محمد” و”لشكر طيبة” في باكستان، والتي تُموّلها جهات محلية وفقًا لتقرير مجموعة الأزمات الدولية (ICG) في 2020، كما أن الهجمات مثل هجوم مومباي 2008 تُستخدم كذريعة لتصعيد عسكري، مما يخدم أجندات هذه الجماعات الرامية إلى زعزعة الحكومات العلمانية، وتُتهم تلك الجماعات المسلحة بتنفيذ هجمات داخل كشمير الهندية، مما يؤدي إلى تصعيد التوترات بين البلدين، وهذه الجماعات تسعى لإبقاء النزاع مشتعلاً لتحقيق أهدافها الأيديولوجية والسياسية، و تستفيد الجماعات المسلحة من النزاع، حيث يمكنها تجنيد المزيد من الأعضاء من خلال الترويج لفكرة الجهاد أو الوطنية، ودائما هناك سؤال مطروح (من يمول تلك الجماعات؟).
رغم أن السلام قد يُحفز التكامل الاقتصادي – خاصة في مجال الطاقة والتجارة – إلا أن بعض النخب تُفضل إبقاء الحدود مغلقة، فمثلًا؛ تُعارض شركات الهند الكبرى فتح تجارة مع باكستان خشية المنافسة، ويعد النزاع بين الهند وباكستان فرصة لبعض الدول والشركات لبيع الأسلحة والمعدات العسكرية، كما أن التوترات قد تؤثر على الاستثمارات الأجنبية في المنطقة، مما يدفع بعض الأطراف للاستفادة من الوضع لتحقيق مكاسب اقتصادية، وتشير دراسة أجراها “مشروع تكاليف الحرب” بجامعة براون في 2021 إلى أن الحكومات غالبًا ما تُبرر زيادة الميزانيات العسكرية بحجة “التهديد الخارجي”، مما يخلق حلقة مُربحة للشركات التي تروج لأسلحة متطورة، فعلى سبيل المثال؛ بعد أزمة بالاكوت الجوية عام 2019 بين الهند وباكستان، زادت الهند من صفقاتها مع فرنسا لشراء طائرات رافال القتالية بقيمة 8.8 مليار دولار
وفقًا لتقرير لـ”البي بي سي”، وتُعتبر الصناعات العسكرية في كل من الهند وباكستان من أكبر المستفيدين من استمرار التوترات، ففي الهند؛ التي تحتل المرتبة الثالثة عالميًا في الإنفاق العسكري تم إنفاق 76.6 مليار دولار عام 2022 وفقًا لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي، وتُشكّل صفقات الأسلحة مصدرًا رئيسيًا للربح لكبرى الشركات مثل “هندوستان للملاحة الجوية”، و”منظمة أبحاث الفضاء”، أما باكستان، التي تنفق نحو 11 مليار دولار سنويًا فتعتمد على شركات مثل “المؤسسة الباكستانية للطيران”، وصفقات الاستيراد من الصين وتركيا.
إن القوى الجيوسياسية كالصين والولايات المتحدة تلعب دورًا غير مباشر في تغذية النزاع، حيث تسعى بعض القوى الخارجية إلى تحقيق مصالحها من خلال تأجيج النزاع بين الهند وباكستان، على سبيل المثال، تسعى الصين إلى تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال دعم باكستان، فالصين تُعد حليفاً استراتيجياً رئيسيا لباكستان، حيث قدمت لها مساعدات عسكرية بقيمة 5 مليارات دولار بين 2018-2023 (حسب تقرير وزارة الدفاع الأمريكية الصادر في عام 2023)، وقد زودتها بمقاتلات J-10C المتقدمة، والتي استخدمتها باكستان في النزاع الأخير مع الهند، ويُعتقد أن الصين تستفيد من تصاعد التوترات بين الهند وباكستان لإضعاف الهند، منافستها الإقليمية، كما أن تنافس الصين مع الهند على حدود هيمالايا يجعلها تُفضل إبقاء الهند منشغلة بجبهة باكستان، أما الولايات المتحدة تاريخيًا، دعمت الهند كتوازن ضد الصين، لكنها أيضًا باعت أسلحة لباكستان خلال الحرب الباردة، اليوم؛ تحقق الشركات الأمريكية مثل “لوكهيد مارتن” أرباحًا من صفقات الهند، مثل شراء منظومات الدفاع الجوي S-400 الروسية، التي فرضت واشنطن عقوبات بسببها وفقًا لمجلة “ذي دبلومات” في 2021
فالولايات المتحدة تسعى للحفاظ على توازن القوى في جنوب آسيا، في النزاع الأخير؛ تدخلت الولايات المتحدة للوساطة بين الهند وباكستان، مما أدى إلى اتفاق على وقف إطلاق النار، ومع ذلك، يُعتقد أن بعض السياسات الأمريكية قد تسهم في تأجيج التوترات، خاصة في ظل التنافس مع الصين، ولا يمكن إغفال دور روسيا؛ فهي تعد مورداً رئيسياً للأسلحة لكل من الهند وباكستان، في حين أنها تدعو إلى التهدئة، إلا أن مبيعات الأسلحة قد تسهم في تصعيد النزاع بشكل غير مباشر، أما دول الخليج؛ مثل السعودية والإمارات، تلعب دوراً في الوساطة بين الهند وباكستان، ففي النزاع الأخير، قامت السعودية بجهود دبلوماسية لتهدئة التوترات، نظراً لمصالحها الاقتصادية والعمالية في كلا البلدين.
لا يقتصر النزاع على الاعتبارات السياسية، بل يشمل السيطرة على موارد كشمير المائية، حيث تُسيطر الهند على منابع نهر السند، الذي يعتمد عليه 75% من الزراعة الباكستانية وفقًا لتقرير الأمم المتحدة الصادر في 2018، وهذا يجعل النخب الباكستانية تُصرّ على تحرير كشمير كمسألة حياة أو موت، كما تُساهم وسائل الإعلام المُحافظة في كلا البلدين في تأجيج الكراهية عبر برامج تُصور الطرف الآخر كعدو وجودي، ففي الهند، تُروج قنوات مثل “ريبابليك تي في” لخطاب كراهية ضد المسلمين والباكستانيين، بينما تُحرض القنوات الباكستانية على “الدفاع عن كشمير” وفقًا لمرصد “ميدياريسيرش”
فاستمرار النزاع يعكس مصالح متشابكة لفاعلين محليين ودوليين، لكن تكلفته البشرية مُدمرة فأكثر من 100 ألف قتيل في كشمير وحدها منذ 1989 (حسب منظمة العفو الدولية)، ويتطلب الحل تعاونًا دوليًا لفضح هذه المصالح، وتعزيز الحوار عبر منصات مثل منظمة شنغهاي للتعاون، مع ضغط شعبي من أجل نزع السلاح، لكن ستظل العلاقات بين الهند وباكستان معقدة، حيث تتداخل العوامل التاريخية والسياسية والدينية، بينما يسعى البعض إلى إشعال فتيل الحرب لأغراض شخصية أو سياسية، فإن العواقب ستكون وخيمة على كلا البلدين، ومن المهم أن يسعى المجتمع الدولي إلى دعم الحوار والتفاهم بين الجانبين لتجنب التصعيد، فتتعدد الأطراف التي لها مصلحة في إشعال فتيل الحرب بين الهند وباكستان، سواء كانت داخلية تسعى لتعزيز النفوذ، أو إقليمية ودولية تسعى لتحقيق مكاسب استراتيجية واقتصادية، فمن الضروري أن تعمل هذه الأطراف على تهدئة التوترات وتجنب التصعيد، حفاظاً على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.