
من جوفِ المحن تأتي المنح ، ومن قلبِ الأحزان يبحثُ الإنسان عن الأفراح .. هى طبيعةٌ إنسانيةٌ تعشقُ الاحتفالات والأعياد ، خاصةً في مصر التي نسجت من أحزانِها أفراحَهَا منذ أن شق النيلُ العظيم أرضها الخصبة ، “الإله حابي” مصدر الخير والنماء ، الذي يحكي أجملَ أسطورةٍ في التاريخ “عروس النيل” التي يتم ألقاؤها في مياه النهر احتفالاً بعيد “وفاء النيل” كقربانٍ تتزَوجهُ في العالم الآخر .
ربما أسطورة لا يوجدُ لها نصٌ صريح في التاريخ ، لكنها تشير إلى فكرةِ التضحيةِ والوفاءِ والاحتفالِ بالفيضان ، الذي يعتقد المصريونَ القدماء سببه هو دموع إيزيس حزناً على وفاةِ زوجِها أوزوريس .
ليس في مصرَ القديمةِ فحسب وإنما تحتفلُ الكنيسةُ القبطيةُ أيضا بوفاءِ النيل حيث يتمُ ألقاءُ أصبع الشهيد في النهر ، ويُعرف عند الأقباط باسم أصبع الشهيد .
طبيعةٌ إنسانيةٌ في مصر إذن ، يضحكون حتى البكاء ، ويسخرونَ من أحزانِهم فرحاً وضحكاً ، ربما يخشونَ الفرح ويخافونَ منه ، لكنهم دائمو البحثِ عنه ، خاصةً في مناسباتِهم الدينيةِ منذ العصورِ القديمةِ وحتى عصرِنا الحالي .
مواكبُ للآلهة في مصر القديمة ، واحتفالاتٌ دينيةٌ بذكرى ميلادِ الأنبياء ، ومناسباتٌ عظيمةٌ غير دينية في مصرَ الحديثة ، نسج من خيوطِها المصريون أكثرَ من ثلاثةٍ وثلاثينَ احتفالاً في العام ، لتعمَ الأفراح ُ في أرجاءِ المعمورةِ على اختلافِ الدياناتِ والطوائف .
احتفلنا منذ أشهرٍ قليلةٍ بذكرى المولد النبوي الشريف “ميلاد خير البرية النبي الخاتم” صلى الله عليه وسلم ، المناسبة التي ينتظروها المسلمون كل عام ويقِيمونَ لها الاحتفالات المختلفة .
وهذه الأيام تهلُ علينا ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام ، قصةٌ تُعِيدُ إلى الأذهان حدثاً غريباً بحملِ السيدة مريم العذراء من غير زوجٍ أو أبٍ للنبي عيسى عليه السلام ، وهو حدثٌ عجيب ولكنه ليس أعجب من خلق آدم الذي خُلِقَ من غير أبٍ و أمٍ .
“كما جاء في قوله تعالى”
” إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ”
صدق الله العظيم .
وفي هذه الآية حُجةٌ دامغةٌ شبهت الغريب بما هو أغرب منه ، فلقد شاءت حكمةُ الله أن تشهدَ الإنسانيةَ هذه الولادة العجيبة كي تتفكر من خلالها في قدرةِ الله ، وثمة حكمة ثانية وهي إعادة التوازن الروحي لبني إسرائيل الذين غرقوا في المادية ، فكانت ولادة السيد المسيح “المعجزة والخارقة” إعلاءً لعالمِ الروح .
في الخامسِ والعشرينَ من شهرِ ديسمبر كل عام يحتفلُ مسيحيو الغرب “الكاثوليك” بذكرى ميلاد السيد المسيح ، بينما يحتفلُ به مسيحيو الشرق “الأرثوذكس” في السابعِ من شهر يناير ، وهنا يقفُ الكثيرون في حيرةٍ عن سببِ اختلافِ التوقيت ، على الرغم من أن الذكرى واحدة ، لكن يعود الاختلافُ إلى أن كل الأقباط في العالم كانوا يحتفلون بعيد الميلاد يوم التاسعِ والعشرينَ من شهر كيهك حسب التقويم القبطي ، وكان هذا اليوم يوافق الخامسَ والعشرينَ من شهرِ ديسمبر من كل عام حسب التقويم الروماني ، الذي سمي بعد ذلك بالميلادي ، ولقد تحدد عيد ميلاد المسيح في مجمع نيقية عام 325 ميلادية ، حيث يكون في أطولِ ليلةٍ وأقصرِ نهارٍ فلكياً ، والتي يبدأ بعدها الليلُ القصير والنهارُ الطويل في الزيادة ، ولكن في عام 1582 ميلادية تغير الأمر مع تراكم السنين ، حيث لاحظ علماء الفلك أن يوم 25 ديسمبر “يوم عيد الميلاد” ليس في موضعِه أي لا يقع في أطولِ ليلةٍ وأقصرِ نهارٍ بل وجدوا الفرق عشرة أيام ، حتي يقع في أطولِ ليلٍ وأقصرِ نهارٍ ، وعليه انفصل مسيحيو الشرق “الأرثوذكس” عن مسيحي الغرب”الكاثوليك والبروتستانت” في احتفالاتهم بعيد الميلاد ، حيث أصبح 29 كيهك يوافق يوم 4 يناير في العام 1582 ، ولكي يضبط الفلكيون ذلك النظام وضعوا قاعدة تضمن حذف ثلاثة أيام كل 400 سنة ، لأن هذا الفرق بين التقويمين يؤدي إلى زيادة يوماً كاملاً كل 128 سنة ، وبذلك زاد الفرق بين الاحتفالين ، فأصبح الآن يفصل بينهما 13 يوماً ، وأصبح 29 كيهك يوافق 7 يناير من كل عام ، وسيظل هكذا حتى عام 2094 ميلادية ، حينها سيوافق الاحتفال بعيد الميلاد المجيد يوم 8 يناير .
ثمة اختلاطٍ أيضاً يقعُ فيه الكثيرُ من الناس وهو الفارق بين الاحتفالِ برأسِ السنةِ الميلاديةِ وأعياد الكريسماس ، الذي يعتقد البعض أن كلتا المناسبتين مناسبة واحدة لاقتراب توقيتهما ، لكن الحقيقةَ على عكسِ ذلك ، فعيدُ الكريسماس هو عيدٌ ديني يحتفلُ به المسيحيونَ بميلادِ السيد المسيح بإقامةِ العزائمِ والتجمعاتِ وتقديمِ الهدايا وتبادلِ التهاني .
أما رأسُ السنةِ الميلادية فهو احتفالٌ غير ديني ببدايةِ العامِ الجديد في الأول من يناير ، ويتمُ الاحتفالُ به ليلةَ رأسِ السنة في الحادي والثلاثينَ من ديسمبر حتي الساعات الأولى من بدايةِ العامِ الجديد الأول من يناير .
أعيادٌ واحتفالاتٌ دينيةٌ وغير دينيةٍ تعيشُها مصرُ منذ العصورِ القديمةِ وحتى عصرِنا الحديث ، تصلُ إلى ثلاثةٍ وثلاثينَ عيداً وتزيد ، ميزت مصرَ عن غيرِها دونِ سائرِ الدول ، ليعيشَ مواطنوها في سلامٍ روحي وأفراحٍ مختلفةِ الألوان والأشكال ، لتؤكد أنها بلدُ الأمنِ والأمان ، ومهبطُ الرسلِ والأديان ، والتعايشِ بين الطوائفِ مختلفةِ الملل في كلِ مكان .
وكما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :
“ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ” .
ويقول في محكم آياته أيضاً :
“اهبطوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ” .
كل عام ومصرُ دائماً في أعيادٍ واحتفالات ، ومسيحيو مصرَ والعالم في خيرٍ وسعادة ، وعام ميلادي جديد يحمل الحب والتفاؤل والأمل بالله في حياة أفضل للجميع بإذنه تعالى .
بقلم / عصام التيجي
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.